الكاتب : طه عبد الواحد

زيارة ميدفيديف إلى تل أبيب لن تأتي بجديد للتسوية

ذكرت وسائل إعلام أن الرئيس الروسي دميتري ميدفيديف ينوي القيام بزيارة لإسرائيل في الفترة القريبة القادمة، ولن تكون هذه الزيارة الأولى لمسؤول روسي من هذا المستوى إلى تل أبيب حيث سبق وأن زارها فلاديمير بوتين عندما كان رئيساً لروسيا، وسبق تلك الزيارة وتلاها زيارات لمسؤولين روس من مختلف المستويات، آخرها زيارات زوبكوف نائب رئيس الحكومة الروسية الذي ركز على البحث في قضايا التعاون الاقتصادي-التجاري-التقني مع إسرائيل، وزيارة ميخائيل مارغيلوف رئيس لجنة السياسة الخارجية في المجلس الفيدرالي التي بحث خلالها ما آلت إليه عملية التسوية مع القيادات في السلطة الفلسطينية والمسؤولين الإسرائيليين.

يُذكر أن الاتحاد السوفييتي أعاد العلاقات الدبلوماسية مع إسرائيل في أيامه الأخيرة، وتحديداً يوم الثامن عشر من تشرين الأول عام 1991، أي في نهاية عهد ميخائيل غورباتشوف الرئيس السوفييتي الأول والأخير (قبل غورباتشوف كان رأس السلطة يحمل لقب الأمين العام للجنة المركزية للحزب الشيوعي السوفييتي) وذلك في إطار سياسة الانفتاح السوفييتي على الغرب والمساعي لإنهاء الحرب الباردة. حيث سعت القيادة السوفييتية حينها إلى إقامة علاقات مع كل حلفاء الولايات المتحدة ظناً منها أن كسر جدران الحرب البادرة وقيودها في العلاقات الدولية سيعطي للاتحاد السوفييتي مكانة مميزة في العالم وسيساهم في بناء شراكة دولية أميركية-روسية بديلة عن التنافس بين موسكو وواشنطن. وتابعت روسيا الاتحادية كوريثة للاتحاد السوفييتي هذا النهج.

ولا بد من الإشارة إلى أن القيادات السوفييتية، لاسيما في عهد أندروبوف ناقشت مراراً مسألة إعادة العلاقات الدبلوماسية مع إسرائيل، حيث عبر بعض أعضاء اللجنة المركزية للحزب عن اعتقادهم بأنه لن يكون بوسع الاتحاد السوفييتي لعب دور وساطة فعلي ومقبول من جميع الأطراف في تسوية النزاع العربي-الإسرائيلي دون وجود علاقات دبلوماسية مع إسرائيل. أي على مبدأ أن دور الوساطة يفرض وجود علاقات لدى الوسيط مع كل الأطراف المتنازعة. حينها رُفضت هذه الدعوات، وبقيت العلاقات مجمدة حتى عهد غورباتشوف. وفي وقتنا الحالي تنظر روسيا إلى علاقاتها مع إسرائيل من عدة زوايا، ما زالت قائمة بينها وجهة النظر القائلة بأن العلاقات مع تل أبيب ستساهم في تفعيل الدور الروسي في التسوية، باعتبار العملية، ومن يتمكن من تحريكها ودفعها لتحقيق نتائج ملموسة، مؤشر رئيسي على دور هذه القوة الدولة أو تلك في منطقة الشرق الأوسط.

الرغبة بأن تساهم علاقات موسكو وتل أبيب بتفعيل وتعزيز الدور الروسي في المنطقة فرضت على روسيا أن توسع مجالات تعاونها مع إسرائيل، ظناً منها، حسب رؤية البعض من الخبراء السياسيين الروس، أن توسيع مجالات التعاون الاقتصادي الروسي-الإسرائيلي قد يشكل مع الوقت البديل لتل أبيب عن العلاقات مع الولايات المتحدة، لاسيما في ظل تزايد الأصوات الإسرائيلية المنادية بفك الارتباط المصيري لبقاء ووجود الكيان بالعلاقات الأميركية-الإسرائيلية. في هذا السياق أتت الفكرة الروسية بمد خط غاز من روسيا عبر تركيا إلى إسرائيل. ونظراً للأهمية التي تحتلها قضايا الطاقة في سياسات الدول في السنوات الأخيرة هناك من يعلق الآمال في موسكو بأن يساهم مثل هذا المشروع الاقتصادي العملاق في التأثير بصورة جذرية على الموقف الإسرائيلي من عملية التسوية ومن العلاقات مع العالم العربي والجوار ككل.

لكن في جرد حساب لما قدمته علاقات موسكو مع تل أبيب على المحور الرئيسي (تفعيل دور روسيا في عملية التسوية) تشير كل الوقائع إلى أن ما تحقق حتى الآن يتناقض تماماً مع الرغبات الروسية، حيث تعمل إسرائيل على عرقلة وإفشال أي مبادرات روسية، وتؤكد في كل ظرف مناسب أنها لا ترى أي وسيط في التسوية سوى الولايات المتحدة. على سبيل المثال صرح شارون عام 2003 بأن "الرباعية الدولية لا تتمتع بأي تأثير، وتأسيسها لم يكن سوى إضاعة فارغة للوقت". ورداً على تدويل مجلس الأمن لخارطة الطريق بمبادرة من الرئيس الروسي فلاديمير بوتين عام 2003، اتهمت إسرائيل القيادة الروسية بالانحياز إلى الفلسطينيين في عملية التسوية، واستدعت الخارجية الإسرائيلية السفير الروسي في تل أبيب لتعبر له عن استيائها من مبادرة بوتين، الذي وعد، حسب الإدعاء الإسرائيلي بأن يفكر ملياً قبل عرض "خارطة الطريق" على مجلس الأمن لتأييدها.
وعندما أطلق بوتين اقتراحه لعقد مؤتمر لتسوية نزاع الشرق الأوسط في موسكو، وافقت كل الأطراف على المشاركة فيه باستثناء إسرائيل التي اعتمدت المماطلة، الأمر الذي جعل موسكو تؤجل مؤتمرها وصولاً إلى ما يمكن وصفه "فقدان الأمل" بانعقاده. وفي عام 2007 عندما دعت الولايات المتحدة إلى مؤتمر أنابوليس عاد الأمل لروسيا من جديد باستضافة مؤتمر للتسوية. ففي الوقت الذي لم تعلن فيه موسكو موقفاً محدداً من مؤتمر أنابوليس وعدت الدبلوماسية الأميركية روسيا بدعم فكرة مؤتمر موسكو في حال قدمت روسيا الدعم في التحضير لمؤتمر أنابوليس، لاسيما إقناع أطراف عربية بالمشاركة فيه. وقد بذلت روسيا ما بوسعها، على أمل أن يتم استكمال ما بدأ في أنابوليس في موسكو، إلا أن السياسات الإسرائيلية، إضافة إلى الخداع الأميركي في عهد إدارة بوش اسقطا كل الرهانات الروسية، وما زال مؤتمر موسكو المقترح منذ عام 2005 مجرد فكرة يرى كثيرون أنها لن تتحقق قريباً.

على الرغم من هذا والكثير غيره ما زالت روسيا تأمل أن تحصل على مبتغاها الرئيسي من علاقاتها مع تل أبيب، وأن تتمكن من تحقيق تسوية عجزت عن تحقيقها الولايات المتحدة. في هذا السياق يراهن البعض في روسيا على ليبرمان وسياسات حكومة نتنياهو. إذ يرون أن هذه السياسات ستجر إسرائيل إلى أمر من إثنين: إما أن تؤدي سياسة الاحتلال الإسرائيلية إلى تجسيد واقع الدولة ثنائية القومية، وهو ما سيفرض على إسرائيل تغيير نهج تعاملها مع التسوية والسعي لتحقيقها على مبدأ الدولتين لشعبين، باعتباره خيار أفضل من خيار "دولة ثنائية القومية" بالنسبة لإسرائيل، أو أن تخلق سياسات ليبرمان ونتنياهو إلى توريط إسرائيل في مآزق داخلية ودولية (وهو ما يجري حالياً)، رد فعل سلبي في المجتمع الإسرائيلي بالابتعاد عن التطرف وما سببه من أزمات، والميول نحو الاعتدال، أي تكوين ظرف سياسي إسرائيلي عام قابل للانخراط بتسوية وفق قرارات الشرعية الدولية، كما تريد روسيا.

في الوقت الراهن لا يمكن التعويل على العلاقات الروسية-الإسرائيلية في منح روسيا الدور الذي تتمناه في التسوية نظراً للاختلاف الجذري بين الرؤى الروسية والإسرائيلية للتسوية، آلياتها ومرجعياتها. إذ تصر موسكو على أن تكون قرارات الشرعية الدولية واللجنة الرباعية مرجعية أسياسية لا بديل عنها في التسوية، بينما ترفض إسرائيل بصيغة أو أخرى هذه المرجعية بدعم من واشنطن التي ما زالت بدورها ترفض المشاركة الفعلية لأي طرف دولي في عملية التسوية خشية منها على نفوذها ومكانتها في الشرق الأوسط، وفي العالم ككل. من هنا يبدو واضحاً أن موسكو، على ما يبدو، تعمل على توسيع علاقاتها في شتى المجالات مع إسرائيل ورهانها الأكبر على الوقت وما سيحدثه من تغيرات جذرية على المستويين الدولي والإقليمي، وهي تبدو في تمسكها بعلاقاتها مع الدول العربية من الحلفاء التقليدين، وإقامتها لعلاقات طيبة جداً مع دول لم تكن لها علاقات مع الاتحاد السوفييتي، إضافة إلى علاقاتها مع إسرائيل، كمن يعد العدة ويهيء المناخ بانتظار اللحظة التي ستتمكن فيها من تسخير كل هذه العلاقات لتلعب دوراً فعلياً مؤثراً في تسوية النزاع في الشرق الأوسط.

لا شك بأن التسوية سيكون ملف رئيسي حاضر في محادثات ميدفيديف مع القيادات الإسرائيلية خلال زيارته إلى تل أبيب يوم السابع عشر من كانون الثاني. إلا أن الجزء الأكبر من الخبراء يرون أن هذه الزيارة لن تأتي بأي جديد جذري لعملية التسوية وللدور الروسي فيها. لكن هذا لا يعني التوقف عن المحاولة لإنقاذ الموقف، حسبما يرون في موسكو.