الكاتب : طه عبد الواحد

كانت اتفاقية ستارت الجديدة المسماة أيضاً (ستارت-3) موضوع رئيسي ركزت عليه وسائل الإعلام الروسية، كما والأوساط الدبلوماسية الروسية، جل اهتمامها منذ مطلع وحتى نهاية عام 2010باعتبارها الاتفاقية التي ستحول دون تجدد سباق تسلح نووي مع ما سيحمله هذا من نتائج سلبية ومآسي للعالم كله، وتبعد الأسلحة الإستراتيجية عن التنافس الأميركي الروسي المستمر. كما أولت الأوساط الإعلامية والسياسية الحاكمة والاجتماعية العامة في روسيا، ووسائل الإعلام ومراكز الأبحاث من خارج روسيا اهتماماً كبيراً بتفجر أعمال شغب في العاصمة الروسية موسكو ومدن أخرى، والتي طفت على السطح خلالها بوضوح أزمة العلاقات بين القومية في الدولة الروسية الاتحادية، وتركت وقع دوي انفجار ضخم هز أسس الدولة والمجتمع الروسيين. لهذا قد يكون من العدل القول بأن اتفاقية ستارت-3 وأعمال الشغب في المدن الروسية هما الحدثان الأكثر أهمية اللتان شهدتهما روسيا الاتحادية في عام 2010، هذا بالطبع إلى جانب الحرائق بسبب الحر في الصيف وظاهرة المطر الجليدي غير الطبيعية التي تجتاح روسيا هذا الشتاء. لكن نبقى ضمن الأحداث ذات الطابع السياسي لنتساءل عن أسباب هذا الاهتمام الروسي بالمصادقة على اتفاقية ستارت-3، في شأن أول، وخطورة العنف القومي في روسيا في الشأن الثاني.

يرى عدد كبير من الخبراء أن اتفاقية ستارت-3، التي يصر الجانبان الأميركي والروسي على وصف توقيعها ومن ثم المصادقة عليها بأنه إنجاز تاريخي، ليست سوى اتفاقية قد يصح القول بأنها "اتفاقية إطار" بمعنى أنها ترسم حدوداً لمدى ما قد يصل إليه التنافس المستمر بين روسيا والولايات المتحدة والذي تهدأ وتيرته تارة وتتصاعد تارة أخرى، دون أن يسقط من حسابات الطرفين في غضون ذلك احتمال التورط في مواجهات غير مباشرة، مثلما جرى خلال الحرب الجورجية على أوسيتيا الجنوبية، أو مواجهة أميركية-روسية مباشرة وهو ما كاد أن يحدث مرة واحدة في التاريخ خلال الأزمة الكوبية، لكن ما زالت إمكانية تكراره قائمة طالما هناك سعي أميركي لفرض الهيمنة والنفوذ على مناطق النفوذ الروسي وعلى روسيا نفسها إن أمكن.

من جانب آخر أرادت روسيا من اتفاقية ستارت إبعاد عنصر التوتر الإستراتيجي في علاقاتها مع الولايات المتحدة عن توجيه دفة علاقاتها مع الاتحاد الأوربي. ومن نافل القول إن العلاقات الأوربية-الروسية تتأثر بصورة مباشرة بالتوتر بين موسكو وواشنطن، وتحديداً عودة سباق التسلح بينهما الذي سيفرض على أوربا أن تقف إلى طرف من اثنين، إما روسيا التي مازالت أوربا تصر على رؤية عدو محتمل فيها (وهو ما كشفت النقاب عنه تسريبات ويكيليكس بشأن خطط الناتو لحماية دول البلطيق من عدوان روسي محتمل) أو إلى جانب الولايات المتحدة التي ما زالت تتحكم بمصير القارة العجوز مستغلة لذلك الهاجس الأمني الأوربي والاعتقاد لدى الأوربيين بأن شيئاً سوى علاقات مع الولايات المتحدة كما هي عبر الناتو لن يضمن لهم أمنهم من العملاقين المجاورين الروسي والصيني.

بعبارة أخرى احتاجت روسيا إلى التهدئة مع الولايات المتحدة كي تتفادى سباق تسلح يؤدي إلى مزيد من التوتر بينها وبين الولايات المتحدة ينعكس سلباً على إستراتيجيتها بإقامة علاقات مع أوربا تؤدي في نهاية المطاف إلى إبعاد العنصر الأميركي عن الفضاء الأوراسي عموماً،وفك الربط بين الأمن الأوربي والعلاقة مع الولايات المتحدة على وجه التحديد. ويرى كثيرون في روسيا أنه كلما شعرت الولايات المتحدة بتنامي الرغبة الأوربية بالتخلص من عبء البقاء تحت رحمة وسيطرة حلف الناتو تعمد إلى التحرك أو تحريك أدواتها كي تجعل روسيا تبدو كمصدر تهديد بأعين الأوربيين، وذلك كي يتمسك هؤلاء بحلف الناتو. ولعل خير وصف للحاجة ببقاء الناتو هو ما قاله، منذ سنوات، الجنرال الروسي ليونيد إيفاشوف في حوار مع واحدة من الصحف السورية "الناتو ضروري للولايات المتحدة كي تبقى مسيطرة ومتحكمة بالسياسة الخارجية الأوروبية، وقبل كل شيء في مجال الأمن، بما يخدم بالدرجة الأولى المصالح العسكرية والاقتصادية الأمريكية".

إذا تريد روسيا تفادي سباق تسلح ينهكها اقتصادياً ويشغلها عن استكمال سياسة استعادة المكانة والنفوذ الدوليين، كما تريد تقديم دعم لنهج أوباما والإيحاء بأن الولايات المتحدة تمكنت في عهده من إنجاز ما عجزت عن إنجازه في عهد سابقيه وسياساتهم تجاه روسيا. وهذا ليس حباً بأوباما، فالسياسة لا تعرف سوى المصالح، بل رغبة بأن يبقى على رأس السياسة الأميركية لولاية رئاسية ثانية تستعيد روسيا خلالها أنفاسها قبل عودة المحافظين الجدد إلى الحكم في البيت الأبيض. وعليه لا تبدو اتفاقية ستارت-3 إنجاز تاريخي بل حاجة موضوعية فرضتها المصلحة الروسية والحاجة الأميركية بالتهدئة الدولية رغبة من إدارة أوباما بتحسين صورة الولايات المتحدة بعد أن شوهها بوش أكثر مما يمكن توقعه.

أما الحدث الثاني الأهم الذي شهدته روسيا خلال العام 2010 فهو أعمال الشغب التي اجتاحت موسكو ومدناً روسية أخرى، وبرز فيها عنصر العداء القومي. في هذا الشأن لا حاجة بالحديث عن دوافع ما جرى، لأن الصورة واضحة: استغلت القوى القومية المتطرفة احتجاجات مشجعي فريق سبارتاك لتحول الاحتجاجات إلى حملة منظمة ضد أبناء القوقاز المقيمين في المدن الروسية، وتحركت بالمقابل قوى أخرى فأخرجت أبناء القوقاز إلى الشوارع للرد على المتطرفين الروس. ولولا تحرك السلطات الروسية والقيادة الروسية رئاسة ورئاسة حكومة في الوقت المناسب لكانت روسيا ستغرق بنزاعات قومية مسلحة تؤدي إلى تفكيكها وإنهائها كدولة اتحادية. وهذا ليس تهويل للحدث، لأن ما جرى فظيع ومرعب هدد أمن واستقرار روسيا مباشرة. لذلك يبدو أن روسيا التي تمكنت من إبعاد عامل سباق التسلح النووي والعودة إلى روح الحرب الباردة عن بنائها لعلاقاتها مع أوربا، بحاجة ماسة في عام 2011 أن تتبنى كل التدابير والخطوات لاستئصال ظاهرة التطرف القومي من جذورها وإلا فإن أية اتفاقيات في مجالات التسلح النووي أو غيرها لن تفيد روسيا الاتحادية في حال تعرضت بنيها متعددة القوميات والأديان والطوائف للتهديد.