الكاتب : ربى الحصري

ربما على رجال الدين أن يعرفوا اليوم أنهم لا يتحكمون بالأمر، وأن الفتوى لا يمكن أن تصبح "موقفا سياسيا" لأنها من المفترض أن تسهل المعاملات لا أن تتعرض لظاهرة اجتماعية تتفاقم، والمسألة ليست في "الموقف" لأن أي مفتي يستطيع التحدث عن رؤيته في حالات الانتحار حرقا التي على ما يبدو أن أصبحت "تقليعة"، لكن أن يجعل من نفسه مرجعا لفرض موقف على الناس فهو امر يحتاج للقراءة.

بالتأكيد فهي ليست المرة الأولى التي يتم فيها التعامل مع مثل هذه الأمور من قبل أعلى المراجع الدينية، وهو سأن يعتبره البعض حقا لرجال الدين لكن علينا التميز بين أمرين:

الأول أن الحكم الشرعي للانتحار لا يحتاج إلى فتوى لأنه معروف سلفا.

الثاني أن قضايا الانتحار الحالية تخرج عن إطار الحالة الفردية التي يتم تسجيلها في مسألة الانتحار، وهي أيضا لا تشابه ما يجري أحيانا في اليابان حيث يصبح الانتحار جزء من شخصية الفرد عندما يتماهى مع ثقافته، فالأحداث الحالية تعبر عن ظاهرة مختلفة تماما وتدعو للقلق على الصعيد الاجتماعي على الأقل، طالما أن رجال السياسة وربما الدين يكتفون بتسجيل المواقف.

عندما تظهر فتوى بشأن الانتحار حرقا فإنها تحاول اختصار ظروف اجتماعية معقدة ومتراكبة عبر حكم سريع، لكن الجرأة التي يراها البعض اليوم في التعامل مع الاعتراض عبر "إحراق الجسد" لا تقدم حالة يأس فقط، بل محاولة تبني نموذج كان من المفترض أن لا يتكرر، لأنه يشابه عمليات التأثير العنيف والمباشر التي تمارس لمرة واحدة، مثل الاغتيال السياسي الذي يعبر تكراره عن الفشل في تحقيق الهدف، لكن السؤال يبقى: ما الذي يحدث حتى تنتقل عملية الانتحار حرقا لتشكل "ظاهرة" تستدعي إصدار فتوى؟!

ورغم عدم وجود تفاصيل كثيرة حول المواطنين الذين أحرقوا أنفسهم في الجزائر والمغرب ومصر والسودان وحتى السعودية، لكن القاسم المشترك هو عدم وجود واقع اجتماعي قادر على استيعابهم، وفي المقابل فإن المؤسسات الرسمية لكل الدولة ستجد نفسها أمام واقع يصعب تفسيره، وعلى الأخص عندما يصبح "الحرق" حدثا منفصلا عن "الحراك الاجتماعي" العام، رغم أن غرضه الأساسي هو دفع هذا "الحراك" باتجاه معين، لكن التجربة التونسية لم تتكرر وربما لن يظهر توأم لها، فهي تملك ظروفها وتداعياتها التي سارت وفق "الحالة التونسية".

في مجتمعات أخرى ربما لا حاجة لـ"إحراق النفس"، لكن التعبير الذي يبحث عنه الناس لم يظهر أو أن تفاصيل الحياة لم تحمل معها نفس الدوافع التي كانت في تونس، والغريب أن ظاهرة "الانتحار حرقا" لم تدفع ولا فئة أكاديمية كانت أو إعلامية أو غيرها لدراسة تكرار الحالة، فأكثر ما ظهر هو إما احتفاء بما حدث أو فتاوى شرعية أو حتى استشراف بانتشار الظاهرة دون البحث عن تبرير لهذا الاستشراف، ويبقى السؤال ألا يستحق ما يحدث دراسة جدية!