الكاتب : جورج حاجوج

كما في كل عام، تحتفل "إسرائيل" بقيام "الدولة"، وعلى الضفة الأخرى، وعلى نحو نقيض وغريب تماماً لم يعرف التاريخ القديم أو الحديث مثله، يحيي الفلسطينيون والعرب ذكرى النكبة!.

ثلاثة وستون عاماً والطقس نفسه يتكرر على الضفتين، ضفة الانتصار وضفة الهزيمة التي نسميها "النكبة"!.. من عام إلى آخر يكون المشهد نفسه مع بعض التغييرات التي تكاد لا تُذكر في الواقع العربي!.. وإذا كان هناك من تغيّر فهو باتجاه القهقرى والمزيد من الخيبة!.

في هذا العام، ومع إطلالة ما يسميه البعض "ربيع العرب"، والبعض الآخر يسميه "الثورات العربية"، وبعض ثالث يسميه "احتجاجات عربية".. يبدو المشهد العربي مختلفاً عن الأعوام الاثنين والستين الماضية!.. فالمشهد العربي صار مجموعة مشاهد، والواقع العربي لم يعد واقعاً واحداً، حتى ولو كان واقعاً رثاً ومرّاً لكنه واضح ومقروء، إنما صار يحمل الكثير من الافتراقات والمفارقات.. صار أكثر من واقع وتصعب قراءته بسبب ضبابيته في ظل ما يحصل في المشرق العربي ومغربه.

في حين أن الواقع "الإسرائيلي" ما يزال كما هو منذ النكبة، واضحاً ومقروءاً، والأهم مستفيداً من كل المشاهد العربية ومستثمراً لها إلى أقصى درجة ممكنة.. بالتزامن وبالتوازي مع واقع دولي يشبهه لجهة الاستثمار والاستفادة وقطف ثمار التقهقر العربي.

في ذكرى إحياء مناسبة غيّرت وجه المنطقة كلها كالنكبة، لا تستطيع الذاكرة إلا أن تستحضر ما كان مرفوضاً عربياً قبل ستة عقود، ليصبح مقبولاً كأمر واقع وكأنه الحقيقة في يومنا هذا..

قبل ستين عاماً كان إحياء ذكرى النكبة يعني الإتيان على ذكر فلسطين التاريخية، من البحر إلى النهر.. وفي الذكرى نفسها قبل أربعين عاماً اختُزِلت النكبة، وما تعنيه من حق تاريخي وثقافي واجتماعي وتاريخي، إلى الضفة الغربية وقطاع غزة "بفضل نكسة 1967!".. ثم ومنذ تسعينات القرن الماضي وحتى أيامنا هذه تم اختزال هذه الذكرى إلى بضع كيلومترات من الضفة الغربية مع قطاع غزة "بفضل أوسلو!" وما تلاها من محادثات، لم تقدم شيئاً سوى المزيد من السعي وراء فُتات المائدة المتبقية من فلسطين التاريخية!.. وبفضل شهوة السعي للحصول على سلطة ـ دولة حتى ولو على الورق!.

قبل عقود قال محمد الماغوط وفي قراءة استشرافية للواقع العربي و"الإسرائيلي": إذا قُيض لي الذهاب إلى بريطانيا، فإن أول ما سأفعله هناك هو البحث عن قبر بلفور، وبعد أن أجده سأضع قدمي على شاهدته وأقول له:

نريد وطناً ولو على مزبلة!.. رمزية طلب الوطن الفلسطيني التي تحدث عنها الماغوط لم يكن أحد يتوقع أنها ستقارب وإلى حد بعيد ما يحدث الآن عند المطالبة بالوطن الفلسطيني الذي يتم اختزاله يوماً بعد يوم!.

تمر ذكرى النكبة سياسياً على وقع هذه المتغيرات العربية اليوم، لكنها ـ وهذا ما يدعو إلى شيء من الاطمئنان ـ شعبياً ما تزال تطرح نفسها كحضور في كل عام.. في مصر اليوم، الحديث "شعبياً" عن فلسطين وغزة مختلف عما كان عليه في السابق.. في فلسطين نفسها، ثمة مسافة شاسعة ما بين الرسمي والشعبي، والنموذج الحاضر اليوم لتلك الذاكرة التي لا تقبل الموت والنسيان وخصوصاً عن الشباب.. الفتى الشهيد ميلاد عياش ابن الستة عشر عاماً، فهو النموذج الأوضح الذي يضخ الدماء في عروق هذه الذكرى لتبقى معانيها حاضرة على الدوام!.