الكاتب : أنور بيجو

نحن البسطاء ، الجالسين - لأيام طويلة - أمام الشاشة الصغيرة ، باحثين عن حقيقة واحدة ، نجد أنفسنا وسط غابة من الحقائق ، لم تبق حقيقة لم تنتابنا ، لكن كما ينتاب الطاعون الشعوب ، حتى يكاد لا يسمح لنا أن نرتاح ليوم واحد ، مع حقيقة واحدة نركن إليها ، والشيئ الوحيد المتأكدين منه ، أن أحداً لم يقدم لنا الحقيقة كاملة ، بل ربما ما يخفيه ، أكثر بكثير مما يظهره لنا لنقتنع بحقيقته .

ولأني تعلمت متأخراً ، أن الكلام المُحِقّ المُستفزّ ، لا يختلف بشيئ عن الكلام الباطل ، فإني سأراقب كل كلمة أقولها ، كي لا تستفزّ أحداً ، فالتعبير عن الرأي ، له هدف محدد واضح ، وهو المساهمة - إن أمكن - في الخروج مما نحن به بأقل الخسائر .

في 24-11-2005 ، وفي نهاية مقال بعنوان ( الثقة ... وبيوت سوريا ) كتبت :

(( أعتقد أنه كي تستطيع سوريا مواجهة ما تتعرض له اليوم ، كي تستطيع الحفاظ على سياستها الثابتة والمبدئية ، وتستطيع الحفاظ على الهوية والحقوق ، فإن أول عوامل القوة التي يجب أن تتحقق ، هي الثقة المتبادلة بين الدولة والشعب ، فـ (( الثقة أساس سياسي راقٍ )) ، وهذه الثقة هي أساس الأسس وهي قاعدة القواعد ، وهي الخزان الأم لكل منابــع القــوة ، فإذا لم يمـتلئ هذا الخـزان ويفيض ، فمن أين تتفجر الينابيع ؟؟

وأكثر دلائل عدم الثقة بين طرفين ، هو امتناعهما عن الشراكة ، وأكثر دلائل الثقة المتبادلة بين طرفين ، هي المبادرات المقدمة من كلي الطرفين لإقامة الشراكة ، وهذه المبادرات في هذه الظروف الخطيرة ، إن لم تصل نتائجها إلى كل بيت في ســوريا بالمعنى الحرفي لعبارة ( كل بيت ) ، فهي مبادرات ، إن وجدت ، سياسية اعتيادية ، وليست مبادرات سياسية وطنية .

فمن يبادر ويوجه الخطاب للآخر ، خطاباً أساسه الثقة والرغبة في الشراكة ؟؟ ))

اليوم ، بعد حوالي ســت ســنوات ، وليــس من أحـد متأكد إلى أين نتجه ، تأتي المبادرة ( اللغز ) ، الحوار الوطني !! والأصعب أنه قيل ( الحوار الوطني في المحافظات ) ، إنه بالتأكيد طرح فيه تعجل ، وربما تحت الضغط ، تماماً مثل مشروع القانون الجديد للإدارة المحلية .

ومع أن عارف دليله ، يحدد بوضوح أحد طرفي الحوار ( رأس السطة ) ، لكنه ، وهو محق ، يقول : (( لكن ثمة مشكلة تكمن في الاختلاف حول التفاصيل ومَن الذي سيتحاور مع السلطة وكيف ومتى ومن الذي يحدد أجندة الحوار مع أهمية المهلة المعطاة لهذا الحوار .... )) .

أعتقد أنه لا يمكن اليوم ، إقامة حوار في سوريا ، لأنك أمام عدد أطراف من المحاورين ، يقارب عدد سكان سوريا إلا قليلاً ، ربما - وهذا ليس مؤكداً - هناك من تختصره كرقم بعض أحزاب ما يسمّى بالجبهة الوطنية التقدمية ، وهي في الأســاس ممثلة في فريق السلطة .

إن أحد أخطر الخواءات التي تشكلت في سوريا ، هو الخواء السياسي ، والخواء هو فراغ تشكل لكن بفعل فاعل ، وهذا الخواء طال حتى البنى الاجتماعية ، قيماً وأعرافاً وتقاليداً ، فمختار الحارة موظف ، وكبير العائلة صار شيئاً من الماضي ، والوجهاء عليهم ألف ألف خلاف ، أي أن مصطلحات ( باب الحارة ) غير صالحة في هذا الزمان إلا نادراً ، ومع ذلك فإن هذا النادر لا يفيد اليوم في مقولة الحوار الوطني المزعوم .

إن الحوار الوطني مطلوب بقوة ، لكن بعد أن نزيل هذا الخواء من حياتنا السياسية ، فالحوار يقوم بين قوى ومؤسسات حزبية ، تستطيع أن تمثل أكبر نسبة من الشعب ، يفوضها على مسؤوليته أن تقوم بهذا الحوار ، لتخرج بتوافق سياسي اجتماعي ، يضمن العودة الأقوى لسوريا سلطة وشعباً .

نرى أن الأولوية اليوم ، أن تعلن السلطة ، عن إجراء عملي محدد ، يفتح المجال لانطلاق حراك سياسي حقيقي ، الذي ينتهي بحوار وطني ، وهذا الحراك يجب أن ينطلق قبل صدور قانون الأحزاب المأمول ، وقبل انتخابات أعضاء الندوة التشريعية القادمة ، والتي نعتقد أنه لا بد من تأجيلها .

نعتقد أن أفضل طريقة للوصول إلى حراك سياسي حقيقي لا شكلي ، هو إخراج الناس من صيغة المطالبة دون تقدير لما تحتاجه هذه المطالبات من جهد ومن تأنٍ ، وأيضاً ربما ما يشكله الاستعجال بتنفيذها تحت الضغط من أخطار غير محسوبة ، فالمسألة ليست في الحصول مطالب بأي ثمن ، دون حساب المصلحة الوطنية العليا ، لذلك لا بد أن يخرج اأفراد الشعب ، من مجرد المطالبة ، إلى تحمل المسؤولية تجاه ما يطالبون به ، فالديموقراطية لا تعني فقط حرية الاختيار ، بل الأهم ، تحمل مسؤولية هذا الاختيار ، والخطوة العملية الأولى ، هي الطلب إلى كل من يريد تأسيس حزب سياسي جديد ، أو يعيد النظر بحزب مؤسس :

أ‌- تقديم دراسة أولية من صفحة على الأقل ، توضح العقيدة أو الرؤية الشاملة التي يعتمدها الحزب ، على أن تضمن هذه العقيدة أو الرؤية تمكين أي مواطن يحمل الجنسية السورية منذ أكثر من ( مثلاً )سنتين وقد بلغ السادسة عشرة من عمره ، وليس بحقه أي حكم شائن ، تضمن له إمكانية الانتماء أو الانتساب إلى هذا الحزب ، مهما كان دينه أو مذهبه ، أو عرقه أو عشيرته ، أو شريحته الاجتماعية ، أو مهنته أو حرفته ، أي أن تكون الأحزاب التي يمكن أن يرخص لها قابلة لاحتواء جميع شرائح المجتمع السوري دون استثناء . وبالحصول على الموافقة من الجهة المختصة تنال الجهة الطالبة موافقة أولية للنشاط العام .

•ب‌- أن تقدم ( الجهة ) بعد أربعة شهور من حصولها على الموافقة الأولية للنشاط ما يثبت حصولها على ( مثلاً ) / 2000 / الفي توقيع لمواطنين موزعين على كافة محافظات القطر يشكلون القوام الأولي للحزب .

•ت‌- يشرف على هذا الإجراء خمسة قضاة مشهود لهم بالنزاهة والاستقلالية ، ويفتح باب الطعن بهم أو بأحدهم على الإعلام تحت طائلة المسؤولية .

•ث‌- إطلاق سراح سجناء الرأي أو المسجونين لأسباب سياسية .

•ج‌- إن حملة ثقافية إعلامية غير مسبوقة ، مطلب رئيسي يترافق مع الاجراءات السابقة ، عنوانها ( الديموقراطية = المسؤولية ) توضح أن الحرية على المستوى الفـــردي وعلــــى المســتوى المجتمــعي في حريـــــــة الخيـــار ( الديموقراطية ) تعني أنك تتحمل مسؤولية خيارك كفرد ، وتعني أن المجتمع كبنية ارتضى لنفسه أن يتحمل النتائج ، ويتحمل المسؤولية .

•ح‌- يتولى في هذه الحالة ، وبعد وضوح نتائج الحراك ، السيد رئيس الجمهورية وبغياب هيئة تشريعية ، مسؤولية التعديلات الدستورية اللازمة .

نعتقد أن هذا الحراك ، هو الذي يظهر القوى السياسية والقوى الاجتماعية التي يراها الشعب صالحة ، وهو الذي يعيد الأحزاب القائمة إلى رشدها ، وهو الذي يفرز المثقف الصادق عن المثقف ( القوّال ) ، هو الذي يكشف المخزون الحقيقي للمجتمع السوري ، من رجالات وطنيين أكفّاء ، وهو الذي يكشف صدق المشاعر تجاه سوريا ، وصدق الولاء للوطن .

عندها يكون الحوار حواراً وطنياً ، وعندها يمكن لانتخابات تشريعية أن تكون معبرة أفضل تعبير عن الشعب السوري .