يلوم مثقفون وسياسيون وكتاب سوريون وغير سوريين قوى المعارضة السورية بسبب ضعفها وعدم شمولية برنامجها (أو برامجها) السياسية وغموض منطلقاتها الفكرية وضعف حاملها الاجتماعي وقوتها الجماهيرية وثانوية دورها في تفعيل المجتمع وإحيائه، وعجزها عن تشكيل قوة ضغط جدية على النظام تساهم مع ظروف مواتية أخرى في إلزامه تنفيذ الإصلاح السياسي خاصة والاقتصادي والاجتماعي والإداري وغيرها، بدءاً من الاعتراف بحق المساواة وتكافؤ الفرص والحرية وحق التعبير والاختلاف، مروراً بمحاربة الفساد الذي استشرى وتطبيق الديموقراطية وتكريس حق تداول السلطة بالطرق السلمية وعلى رأسها صندوق الاقتراع. ولا يأتي هذا اللوم غالباً في إطار الحرص على المعارضة ومحاولة دفعها لتطوير آليات عملها وتأدية مهماتها التاريخية والاستفادة من تجاربها السابقة ومن الظروف المستجدة محلياً وعالمياً، وإنما في إطار إعلان (أزمتها وإفلاسها).

لا شك بأن المعارضة السورية مطالبة بتجديد برامجها وهياكلها ومناهج عملها واقتراح العلاج الموضوعي والواقعي لمشاكل المجتمع السوري الراهنة والشائكة في مختلف جوانب الحياة، وتصور بدائل لمواجهة المصاعب وإجراء دراسات شاملة لكل القضايا المطروحة على النظام والتي أفرزتها مرحلة التطور الراهنة والمراحل السابقة، وعدم الاكتفاء بنقد هذا النقص أو ذاك أو هذا الموقف أو ذاك، فليست مهمة المعارضة كما هو معلوم ترصّد الأخطاء ونقدها (وفضحها) فحسب بل أيضاً التعامل مع احتياجات المجتمع السياسية والاقتصادية وغيرها من منطلق الدارس لها والملم بجوانبها والمالك لمفاتيح حلولها بوجهة نظر أخرى، غير وجهة نظر السلطة القابضة على كل شيء والمتأثرة بمصالح أفراد أو فئات قليلة لا تمثل مصالح المجتمع كله ومصالح الأمة كلها، فالمفروض إذاً أن تعمل المعارضة لاقتراح برامج بديلة أكثر جدية وشمولاً وعمقاً وواقعية من برامج الحكومة ذات الأهواء، وهذا ما يرى اللائمون أن المعارضة لا تملكه.
يبدو لي أن المتتبع الجاد لحال قوى المعارضة السورية، هياكل وبرامج ونشاطات ومناهج عمل، يجد لها العذر في ما تواجه من ضعف ونواقص، فهي أي قوى المعارضة وليدة تاريخ طويل من الإقصاء والقهر والتشرذم بما كان يكفي لمحوها الكلي من المجتمع السوري، وأظن أن مجرد بقاء جذواتها حية أمام ما لاقت هو نقطة تسجل لها، ويدعو للاعتراف بأنها (بسبع أرواح) إذ بقيت على قيد الحياة.

تعرضت المعارضة السورية (بمختلف قواها) خلال أربعة عقود إلى الإقصاء، ولا يعني الإقصاء هنا مجرد الإهمال أو التضييق على نشاطها وحرمانها من تملك المنابر الإعلامية والثقافية، أو منعها من العمل بين الجماهير فقط، بل يعني أيضاً إلقاء نشطائها في السجن أو منعهم من العمل والسفر والاجتماع (ليس مع الناس فحسب بل داخل خلايا تنظيماتهم) واتهامهم بمختلف التهم بما فيها العمالة والخيانة دون أن يتاح لهم الدفاع عن أنفسهم، إضافة لممارسات أمنية وغير أمنية كفيلة بانهيار أصلب المناضلين وتدمير أي تنظيم حتى لو كان حديدياً، ووصلت قوى المعارضة بعد هذه العقود الأربعة إلى ملامح أحزاب أو تنظيمات سياسية، وبقايا مناضلين شيوخ لم يستطيعوا تجديد ناشطي تنظيماتهم أو تربية (كوادر) جديدة مؤهلة لامتلاك الرؤية وحمل الراية واستيعاب معطيات التطور وتحقيق الفعالية في مواجهة إجراءات النظام السياسي والتعامل معها بأوجه طبيعية وصحية كما هو شأن المعارضة في الأنظمة الديموقراطية أو شبه الديموقراطية. وزاد الطين بلة تعقيد القضايا السياسية والوطنية والداخلية المطروحة في المجتمع السوري، وثقل الأعباء التي يواجهها وخاصة اختلاط المفاهيم القومية والماركسية والدينية والبحث الدؤوب عن أيديولوجيا مناسبة، والموقف من الصراعات الدولية والحرب الباردة، ومحاولات المواءمة بين العقائد، والنظرة العرجاء للديموقراطية والدولة الحديثة، وقضايا التحديث الثقافي والديني، مما زاد في انقسام قوى المعارضة وأحزابها بل أدى إلى شرذمتها، وحوّلها إلى حلقات وخلايا مغلقة غرقت في حوار بيزنطي وعجزت عن التواصل مع الجماهير، وعزفت عن دراسة واقع حياة المجتمع واحتياجاته، وبدت مواقفها متهافتة أمام سلطة قمعية لا ترحم، حتى انها لم تستطع إلى فترة قريبة أن تقيم تجمعاً جدياً بين أطرافها يعمل في إطار توافقات الحد الأدنى، كما لم تستطع التخلص من التاريخ الطويل للصراعات بينها منذ خمسينيات القرن الماضي، إضافة للمواقف الذاتية لكل تنظيم وربما (الشخصانية) لبعض هذه التنظيمات.

ليس من العدل أن نطالب قوى المعارضة السورية التي مرت بهذا التاريخ المليء بالمصاعب وبهذه الامتحانات الصعبة أن تكون قادرة دفعة واحدة على الوقوف الصحي والصحيح بوجه النظام، وامتلاك البرامج الشاملة والمتنوعة التي تستطيع مواجهة التحديات والاستجابة للاحتياجات، والقدرة على تحريك الجماهير وتشكيل قوى ضغط على النظام يحسب حسابها، فحسبها بعد هذا كله ومرة أخرى أنها بقيت على قيد الحياة.

لكن هذا التاريخ المثقل بالآلام لا يبرر للمعارضة السورية كلياً إبقاء حالها على ما هو عليه، فالواقع الموضوعي يشير إلى أن هامش الحرية اتسع في السنوات الأخيرة، ورغم عدم التصريح الرسمي والعلني لها بالعمل فإنها موجودة بحكم الأمر الواقع، ولا تُمنع من العمل والنشاط بالحدود الدنيا، ولها نشراتها و(كراساتها) التي توزع على من تريد (يداً بيد)، والمجال متاح أمامها لدراسة الواقع السوري المتعدد الجوانب: الاقتصادي والثقافي والاجتماعي وغيره، ووضع اليد على الصعوبات واستنتاج المعالجات والبرامج، وهذا ما لم تفعله قوى المعارضة (منفردة أو مجتمعة) حتى الآن ولعلها قيد إعداده الآن.
اكتشف ناشطون في لجان إحياء المجتمع المدني في سوريا أن ليس لدى أحد (سلطة ومعارضة) دراسات وافية وجدية وشاملة وكاملة عن قضايا حيوية تهم المجتمع السوري، كقضايا الإصلاح التشريعي الحالي بشموله والجوانب التي تحتاج لتطوير فيه، أو التشريعات القضائية، أو قضايا المرأة والشباب، أو مناهج التعليم أو الصحة أو حتى البطالة وعشرات القضايا الأخرى، والتي تقع على قوى المعارضة أيضاً مهمة دراستها واستنتاج الحلول، خاصة أن من ناشطي هذه القوى مختصين في مختلف الاختصاصات قادرين على القيام بهذه المهمات، وبدلاً من ذلك ينصرف الجميع إلى نقد هذا الجانب أو ذاك من جوانب الواقع القائم، نقداً رغم صحته فيه شيء من العامية والعمومية والعفوية بما لا تتجاوز فائدته مهمة الدعاية المضادة التي قد تفيد إلى حين لكنها لا تصلح كعلاج حقيقي لمشاكل راهنة شديدة التعقيد.

أعتقد أن لقوى المعارضة كل العذر في أن تكون على ما هي عليه الآن، لكن لا عذر لها أن تبقى على ما هي عليه، وعليها مسؤولية أن تكون فعالة وخلاقة أكثر.

مصادر
السفير (لبنان)