تتخوف الحكومة السورية من الإجراءات والمواقف والأساليب التي تحيط بتقرير اللجنة الدولية المكلفة بالتحقيق في اغتيال رئيس الوزراء اللبناني رفيق الحريري، وتبرر خشيتها بالاتهامات المسبقة لها، الصحافية والسياسية، سواء منها تلك التي واكبت تشكيل اللجنة والتي أشارت بإصبع الاتهام باغتيال الحريري إلى سوريا منذ الساعات الأولى لاغتياله، أم بتلك الإشارات التي أحاطت بالتقرير الإجرائي الذي قدمه ديتليف ميليس رئيس لجنة التحقيق إلى مجلس الأمن قبل أسبوع من الآن.

والذي تقصّد حسب رأي الحكومة السورية اتهام سوريا بإعاقة التحقيق وإطالته، أم أخيراً بالتصريحات الفرنسية والأميركية وبعض اللبنانية التي أشارت تصريحاً أو تلميحاً إلى الإعاقة السورية للتحقيق، وهكذا ترى الأوساط السورية وعلى رأسها الرئيس بشار الأسد أن أكثر من جهة لبنانية أو دولية تحاول تسييس نتائج التحقيق وتحويله إلى وثيقة اتهام ضد سوريا من دون أية مسوغات.

من المفروض أن يقدم ديتليف ميليس ملفات تحقيقه بعد انتهائها إلى القضاء اللبناني ليتخذ إجراءاته القضائية العادية في ضوء هذا التحقيق، ويسلم نسخة أخرى إلى مجلس الأمن الذي كلفه بالمهمة، ويرى السوريون أن التناقض يكمن في هذه الآلية، لأن التحقيق قضائي ومن المفروض أن تتناوله المحاكم اللبنانية فتدين من تدين وتبرئ من تبرئ،

إلا أن الالتباس الذي سيظهر للعيان بعد انتهاء التحقيقات هو أن مجلس الأمن سيتخذ قرارات سياسية استناداً إلى موضوع قضائي من جهة، وقبل بدء إجراءات المحاكمة من جهة أخرى، وبالتالي ليس من المستبعد أن يتخذ مجلس الأمن قراره أو قراراته مستنداً على الاشتباه وقبل التدقيق بالأدلة القضائية وقبل الإدانة القضائية.

وعندما نتذكر الموقفين الأميركي والفرنسي المعاديين مسبقاً لسوريا، وكون البلدين عضوين دائمين في مجلس الأمن، يصبح احتمال الإدانة بالشبهة وارداً ومتوقعاً وكذلك اتخاذ قرارات عقابية قبل اتضاح الخيط الأبيض من الخيط الأسود وحتى قبل بدء إجراءات المحاكمة، ويلاحظ السوريون أنه مهما كان موقف لجنة التحقيق ونتائج أعمالها حيادياً وموضوعياً،

فإن مجلس الأمن سيتعامل مع النتائج تعاملاً سياسياً تفرضه بعض الدول الكبرى وبالتحديد التحالف الأميركي ـ الفرنسي ولن تكون هناك أهمية جدية لموضوعية التحقيقات وحياديتها، لأن التداول المحتمل سياسي بحت، وما التحقيقات إلا مدخل لهذا التداول ومبرر للعقوبات المحتملة.

يتخوف السوريون أيضاً من أنه إذا تم الاشتباه ببعض أصدقائها اللبنانيين أمنيين أو سياسيين فإن الشبهة سرعان ما تطال سوريا، خاصة وأن حلفاءها في لبنان كانوا كثراً وكان تحالفها معهم لأسباب متعددة منها الاقتصادي ومنها السياسي ومنها الأمني وليس بينها برأي السلطات السورية تحالف تآمري على الآخرين أو على حياة الآخرين.

ويؤكد هذا التخوف الاشتباه بقادة الأجهزة الأمنية اللبنانية مما أدى إلى استدعائهم للتحقيق كمشبوهين، ومن المعلوم أنهم كانوا من الأصدقاء المقربين من سوريا وان الاتهامات الأولى التي وجهت إلى سوريا اعتبرت ان السلطة السورية هي المخططة وان هؤلاء الضباط هم المنفذون.

وفي كل الحالات فليست سوريا (أو جهازها الأمني) حسب الموقف السوري مسؤولة أو مسؤول عن سلوك حلفائها وممارساتهم، لكن الأوساط السورية تخشى ألا يأخذ مجلس الأمن هذا الأمر في اعتباره عندما تقدم إليه لجنة التحقيق تقريرها النهائي. إن تأكيد المحقق ميليس في تقريره الإجرائي إعاقة سوريا للتحقيق زادت الاتهامات لسوريا والشبهات حولها، ودفعت الأمور خطوة نحو تسييس التحقيق، كما زادها تحفظ بعض الشهود اللبنانيين عن تقديم شهاداتهم إلى القضاء اللبناني أو وصولها إليه

خاصة أن بعضهم في سدة المسؤولية السياسية أو الإدارية أو الأمنية مما يشير إلى خشيتهم من أجهزة الأمن اللبنانية والقضاء اللبناني وعدم ثقتهم بهما وكلاهما قريبان من سوريا، وهذا ما أكده ميليس، وأسس في تقريره لأسباب تدعو إلى المحاكمة خارج لبنان الأمر الذي لم ينفه رئيس الوزراء اللبناني فؤاد السنيورة، والذي راهن عليه كثيرون انطلاقاً من اعتقادهم أن التحقيق سيطاول على الأقل بعض الضباط (والشخصيات) السورية،

مما يقتضي استدعاءهم و(جرجرتهم) أمام المحكمة الدولية، فإن قبلت سوريا بذلك تكون خسارتها كبيرة في محاكمة مسؤوليها كمجرمين دوليين، وإن رفضت تكون خسارتها أكبر وستتهم(بالمروق) عن القانون الدولي، والمأزق مزدوج في الحالتين والورطة كبيرة. لا شك أن السلطة السورية في ورطة متعددة الجوانب،

فبعض الرأي العام اللبناني يتهمها، وتلاحقها دول كبرى وتقتنص أية فرصة لمعاقبتها، وأخذ أنصارها في لبنان بالتنصل من صداقاتهم، وأصبح تسييس التحقيق ماثلاً للعيان، ويتم توجه جدي نحو المحاكمة الدولية، ولن ينفع بعد هذا اعتداد السلطات السورية بحق السيادة أو بالقوانين السورية أو بالاعتراض على تحويل القضية من دعوى قضائية إلى قضية سياسية، ومن مشكلة لبنانية داخلية إلى قضية دولية، حيث المقدمات كلها تشير إلى ذلك.

وربما شعرت السلطات السورية بعبء المشكلة يوم أذاع رئيس مجلس الأمن بياناً عن تقرير اللجنة وتبعه المندوب الأميركي والفرنسي بآراء صريحة تدين ما سمي بإعاقة سورية للتحقيق، ورأى المسؤولون السوريون أن العيون (محمرة) عليهم. ولذلك أكدوا ببيان صحافي لمسؤول إعلامي ثم بتصريحات لمسؤولين سوريين وأخيراً على لسان الرئيس بشار الأسد استعدادهم للتعاون مع لجنة التحقيق من دون تحفظ،

وفسروا التأخر في الإجابة على أسئلة ميليس أو الاستجابة لطلباته بتفسيرات تختلف عما رآه هو مع بعض الاتهامات الخفية لموقفه برمته، وأرادوا التأكيد أن أسباب تأخرهم تعود للخلاف على الأساليب والإجراءات مع رئيس لجنة التحقيق وليست أسباباً تتعلق بإعاقة التحقيق أو التهرب منه.

الملاحظ أن اللبنانيين أحزاباً وتيارات سياسية ومسؤولين ورأياً عاماً يعيشون توتراً وربما احتقاناً بانتظار نتائج التحقيق بعد شهر أو حول ذلك، ويهيئون أنفسهم لاتخاذ مواقف محددة من هذه النتائج المحتملة، بل ذهب بعضهم بعيداً وأخذ يحسب حساباً لمنعكسات نتائج التحقيق على الحكومة اللبنانية والتحالفات القائمة والتغييرات الأمنية والقضائية المعروضة على السلطة اللبنانية وخاصة ما يتعلق منها بتشكيلات جديدة لقادة الأجهزة الأمنية ومؤسسات القضاء وصولاً إلى مواقف جديدة من مسؤولين في مواقع عليا من السلطة،

وكأن المجتمع اللبناني متحفز لما سيأتي، بل وكأنه يحبس أنفاسه بانتظار ما يأتي. وهذا كله ينعكس في الوقت نفسه على حلفاء سوريا وأنصارها وسياساتها وعلى العلاقات السورية اللبنانية بشكل عام ولو إلى حين. يبدو أن الجميع ينتظرون نتائج أعمال لجنة التحقيق الدولية وكأن على رؤوسهم الطير، كما يبدو أن بعض القوى الدولية تعد العدة لاستثمار هذه النتائج لأقصى الحدود، والجميع ينتظرون على أحر من الجمر.

مصادر
البيان (الإمارات العربية المتحدة)