تنزرع الحياة في الانسان معنى غنياً بالفرح، فان امتلكها أضاء بها، وإن خسرها فقدها وأفقدها.

تطالعنا الأنباء كل يوم عن حالات تحمل في طياتها أهدافاً تختلف ويختلف الموقف منها حسب مضامينها وغاياتها،فحالة فيها السمو في الخلق والتخلق والايثار، فداء واستشهاد،دفاع عن النفس والحق والأوطان، وقودها أناس نذروا النفس من أجل فرح القادمين إلى الحياة ، لهم ننحني ولها نؤيد بالاطلاق، إنه الحق المشروع الذي لا يدانيه حق وحالة تحمل الموت بالمجان وتفرغ الحياة من الفرح وتحكم بالموت عليه لدى الآخرين حتى الطفولة، شعارها الموت لمن ليس معها، ومنطلقها الحكم على كل الناس لأمر مفعول وخاصة في وطننا العربي.

ظاهرة ليست جديدة بل متجددة، تطفو على سطح الأحداث، تتنوع مسمياتها وانحدارها لخدمة مصالح معينة، ترهب الناس وتفسد عقول الناشئة، تخرب المجتمع وتعيده إلى زمن الجاهلية، تفجر الصراعات وتسيء إلى الوطن والمواطن والانسان فكراً وحضارة ووجوداً، إنها العكس ، مفعول الموت لعناصر الحياة، الارهاب المدان في كل مكان، يمارسه أفراد وجماعات ودول تحت شعارات نمت في عمق مصالحها باداء مناف للمنطق والطبيعة والانسانية، يتحاشى الأغلب البحث فيها لأسباب ذاتية وموضوعية،ولا بدائها تصيب الجميع، ولا تفرق بين هذا وذاك الا بما يخدم استراتيجيتها و أهدافها .

وقبل البدء لا بد من التأكيد مجدداً على الفارق بين نضال الشعوب التحرري الذي نؤيد , رغم إدانة قوى الضلال له , وبين الإرهاب كفعل نافذٍ لحالة ثقافية محددة ,إذ أن الصيغة التنفيذية لموقف أو فكرة عصابية تبيح كل الوسائل لتحقيقها ,يتميز بدرجة عالية من الانضباط و الحرفية و الخضوع المطلق للجماعة ,والانصياع الدقيق للأوامر بمشاعر جارفة معادية للتسامح و السلام . وباعتباره فعل يقع على المجتمع , فهو منتج اجتماعي , ينمو في رحم ظاهرة اجتماعية متخلفة و متنامية وعدائية هي “التعصب”المنتج الثقافي للجماعات المنغلقة التي تسعى لتحقيق غاياتها بأساليب متنوعة تصل إلى حد القتل . وسينحو الحديث باتجاه هذه الظاهرة المولدة الأساسية للإرهاب , ذات المضامين المتعددة ,والآليات المتنوعة حسب الواقع والمعطى .

والتعصب في المضمون : حالة من التزمت و الانغلاق و ضيق الأفق و الحماس لعقيدة أوفكرة أومبدأ ترفض آراء ومعتقدات الآخرين. وتحاربها ومن يحملها , ولا تترك مجالاً للتسامح مع الجماعات الأخرى ,ونبذها ,واستعداد دائم لاستخدام العنف ضدها . وبكونه يظهر في إطار الواقع الاجتماعي , فهو حالة مكتسبة وليست فطرية ,تنمو في الفرد والجماعة عبر المنشأة والتلقين والاكتساب وتمارسها الدول حسب تكوينها وسياساتها ومصالحها , مما يستدعي البحث عن مسبباتها في عمق واقع الجماعة أوسياسة الدولة . وفي واقعنا العربي يأخذ التعصب أنماطاً متعددة متماهية مع سيرورة المجتمع العربي وتطورات الأحداث فيه تظهر مفاعيله عنيفة لأسباب كثيرة يمكن إجمالها في مجموعتين هما :

الداخلية : المرتبطة بواقع المجتمعات العربية وظروف تشكلها ونموها وأرضيتها الفكرية والثقافية وبنياتها الفاعلة في توريث وتنميط وتربية ناشئتها على ما تحمله من مفاهيم وخلفيات مجتمعية أهمها :
- التكوين الفكري للأسرة العربية : خلية المجتمع الأساسية,وألفباء المعرفة الانسانية لحقائق الحياة , تتميز بضعف تطورها الفكري قياساً بتطورها الاقتصادي , تعيش حالة عدم وضوح بل مواجهة حقيقية في أغلب الأحيان مع الأفكار الجديدة المرافقة لهذه التطورات , ترفض التغيير فقط لأنه سيقضي على ما تجذر في واقعها وذهنيتها , يخضع بناؤها الأسروي للسلطة الأبوية شبه المطلقة والتزام الجميع بتوجهاته وتوجيهاته خاصة فترة تكون الأبناء , مع حصيلة ثقافية متواضعة وموروثة من أزمان مضت تتسم بالغيبية والقدرية والانغلاق عبر أمية مسيطرة وجهل فاضح وعادات متخلفة نتيجة المفاهيم المتوضعة , مما يدفع الأبناء للبحث عن مواطن أكثر راحة بعيداً عن وخوفاً من الرقابة الأسروية الضاغطة .
- التحقق الاجتماعي : الذي يتميز بثقافة دينية عميقة ومحافظة ومشوهة عن حقيقة الدين تغلف بمؤثراتها كل مناحي الحياة , يندرج فيها الخطاب الفكري المعمم و الثقافة الاجتماعية المتوافقة معها عبر مؤسسات ضاغطة تنتمي بأفكارها إلى أساسيات التربية القائمة وتحمل موقفاً مبدئياً مناهضاً لكل القيم المعارضة مع تكوينه , يتماشى مع ذلك دور المؤسسات التربوية التثقيفية بمناهجها وأدواتها و القائمين عليها المنتمين إلى ذات الشرائح ويحملون نهجها في تسريب وزرع أفكارها في النفوس الناشئة بما يفضي إلى استمرار الظاهرة لأجيال متعاقبة وآجال طويلة ,وتتناغم معها في بعض ملامحها سياسات الدول بتطوير المؤسسات التي تحمل ذات الخطاب دون توضيح الفارق بين الدين والتدين ,والإيمان والاتجاربه .
- النظام السياسي العربي : متعددة الأنماط , المجزأ ,متعمق القطرية , المتناقض في جوانب كثيرة في تكونه الفكري و السياسي و الاجتماعي .

يغلب عليه النمط العائلي القبلي مع ضعف المشاركة الشعبية ,أبوي التوجهات و السلوكيات ,تختلف في اطاره مفاهيم التعصب من القومي و الطبقي و الايديولوجي إلى القطري والمكاني والاثني .وبين شمولية الظاهرة قومياً بين الانظمة ذاتها , يولد حالات عصابية عدائية بين ابناء الشعب العربي في اقطاره وبين الانظمة القائمة من جهة وبين مواطني الاقطار الاخرى من جهة ثانية تبعاً للمواقف السياسية ويخلق تعددية تنافرية في مواقفها تسهم في بحث الافراد والجماعات عن مطارح بعيدة او مناوئة للانظمة من جهة وضد الانظمة من جهة الاخرى من جانب آخر يدعم ذلك مكانياً توضعات النظام القائم بالاعتماد على النظام في التكليف والسلطة والمناصب الحساسة , وقهر للحرية والديمقراطية بل ومحاسبة الناس على أفكارهم وعزلهم وقمعهم وتهميش للكفاءات والقدرات مما يخلق مناخاً مناسباً تستغله المؤسسات المعنية للسيطرة على هذه الشرائح وتوظيفها في خدمة مشاريعها وخططها , هذا اذ لم تقم الانظمة ذاتها بدعم التوجهات حفاظاً على استمرارها وديمومتها.

- الواقع المادي للمجتمعات : الذي يحدده درجة تطور المجتمعات ومدى تلبية الانظمة لحاجات الناس المتزايدة بما يحدده مواقف الكثير من الشرائح الاجتماعية من الانظمة , وينتظم في واقع هذه الانظمة : سوء توزيع الثروة والموارد , وضعف الادارة وعدم القدرة على بناء اقتصاديات وطنية وقومية قوية مع تخريب للبنيات الاقتصادية القائمة , وفساد المسؤولين والارتهان للخارج وضعف النمو الاقتصادي البيني بين الاقطار العربية , وبقاء غالبية الناس في مستويات معاشية متدنية نتيجة هذا الواقع والتزايد السكاني الكبير, وارتفاع معدل الاعالة , وتزايد نسب البطالة وضعف مشاركة المرأة وجهلها وتهميشها , مما يدفع الكثير/خاصة الشباب / الى البحث عن وسائل جديدة تلبي حاجاتهم التي تفاقمت مع دخول منجزات الحضارة , وبما يسهل السيطرة عليهم عبر الاغراءات المادية , واستلاب عقولهم , ايهامهم بمستقبل يتوقون اليه غير محقق ولن يتحقق بالوعود , فيسهل انقيادهم ويتحولون الى اداة طيعة بيد هذه المجموعات لتنفيذ برامجها .

الخارجية :القديم الجديد المهيمن , مع انتشار نظام العولمة , يخلق التناقضات الداخلية المكانية البينية بين الاقطار العربية تأخذ اشكالاًمختلفة بمضمون واحد/ التخريب/ ويبقى اكثرها تأثيراً الفرق على الوتر الديني بكل جوانبه لتنظيم وتجيش المجموعات الطائفية وتجهيزها للزمن المناسب ,عدا ضرب الاندماج الاجتماعي العرقي الاثني بل والجنسي في المجتمعات العربية وتأليبها على بعضها في تربة أصبحت جاهزة في المعاناة القائمة ,اضف الى ذلك توصيف الانظمة العربية حسب رضى القوى العالمية المؤثرة ومصالحها , وبالتالي انتظام بعض هذه الانظمة ضمن منظومة ذلك التقيم , مما يشجع جماعات كثيرة مرتبطة بها على ممارسة الارهاب بأشكاله المختلفة , وخلق اجواء مشحونة في غالبية الاقطار العربية ,خاصة متعددة الاديان والمذاهب والقوميات ,حيث يصبح الموقف بمرجعية المجموعة الى اصولها “لبنان والسودان والجزائر”ويتنامى التناحر والتحصن بين المجموعات المتناقضة ,ويتوضع ذلك انعكاساً في الواقع العربي ,تفجيراً وفعلاً وتخريباً وارهاباً وتعصباً اصبح سمة ظاهرة يوسم بها الانسان العربي القديم والحديث معاً كيفما توجه .ولابد من التنويه بنضال الاهل في فلسطين والعراق ضد اشكال التعصب والاحتلال الذي يضعه المحتلون في منظومة الاعمال الارهابية خروجاً عن المواثيق والقوانين الدولية التي تبيح النضال التحرري ضد كافة اشكال الاستعمار والقهر ناهيك عن ابتداع الالقاب وخلق المشكلات وكيل التهامات للانظمة العربية التي لا تتوافق مع سياساتها واثارة دائمة للفتنة بوسائل متعددة والصاقها بالآخرين حتى التحكم بالقررات الدولية واختلاف متابعتها .

- وفي التواضع :يطرح السؤال :هل سلمنا من التعصب ونتائجه ؟؟ان قراءة دقيقة للواقع العربي تشير الى تعمق الظاهرة ونموها ,خاصة بين عناصر الشباب وكما تدل الصور والاحداث /الذين يشكلون محور الاستقطاب والفعل نتيجة الاحباطات المتلاحقة وعبر استغلال هذه الحالات المتحققة في الانغلاق وتعمق التجزئة في الواقع والنفوس ونمو حالة التباعد التي تصل احياناً ًالى حد التهديد والغزو او خلق وتصدير مجموعات التخريب ذات الاحكام الذاتية الضيقة من جهة اخرى وتنفيذ مخططاته وبالتالي هدراً في الامكانات وضعفاً في النمو الحضاري اقتصادياً وفكرياً وتخريياً للطيف الوطني في كل فطر على حدى وقد نجد امتداداتها في الاقطار العربية الاخرى ودعماً وسنداً لها في بعض الانظمة القائمة على مفاهيم متبناة تجاه هذا النظام او ذاك حسب الخلفيات السياسية والفكرية والايديولوجية لهذه الانظمة .

- وفي المواجهة :تقتضي الضرورة الكشف المبكر والعملي عن مخاطر هذه الظاهرة كمنطلق لمواجهة التحديات التي تعمل في عمق الحياة الاجتماعية وتفرز معطيات سلبية ومخربة على مستوى الساحة العربية , تمهد السبيل لتدخلات وتدخلاات خارجية تكبح مسيرة التطور الحياتية في الكينونة العربية .

ان التعصب الغاء لآخر,الغاء لحقه في المواطنة والحرية والحياة ,ويحمل احكاماً مسبقة ضد هذا الآخر حسب منطلقه وتوجهه,ويستوجب ذلك حلولاً سريعة وجريئة وفعالة ,ونهوضا ًاجتماعياً شاملا ًلا يحتمل التأخير عبر:

- المسح البدائي الجريء لتوضعات هذه الظاهرة والتعمق في قراءة اسبابها لاٍمكان معالجتها ,فادراك الاسباب مدخل ضروري واساسي لنجاعة العلاج وتأثيره ,بالانطلاق من الظواهر الحقيقية للظاهرة وتحجيمها ومعالجتها .وتلعب القوانين والسياسة والتعامل والوضوح والشفافية والحرية والتفاعل الايجابي بين الجماعات والانظمة ومجتمعاتها دوراًفعالاً في حصار الظاهرة ومواجهتها , والامر لايكون بالنيات ولاالتمنيات بل بالموقف الجريء والواضح والفعال .

- الاهتمام الجدي في تربية الانسان وتوجهاته في تعميق مفاهيم السلام والحق والعدل وماللغير كما لك والتسامح عبر آليات التربية والتكوين وتعزيز قيم الاندماج الاجتماعي الحياة للجماعات المتعددة ,والاهتمام بثقافة وفكر الاجيال المتتالية ,وتعميق مفاهيم المواطنة والعيش المشترك والمستقبل الناهض في مختلف مستويات الحياة ومساحتها ,والتأكيد على اهمية الانسان وحقه في الاعتقاد والرأي عبر منظومة ثقافية اجتماعية وبنى فكرية سليمة ,ويلعب المثقفون ووسائل التأثير دوراً قوياً في هذا الاتجاه ,فالتعامل مع الانسان كحالة حضارية راقية يستدعي توافق الخطاب المعلق والممارسة الفعلية حتى لايكون ارضية خصبة لنمو الظاهرة وانعكاساتها في المجتمع ,مع استمرار لهذا التوافق وعدم تراجعه من فترة الى اخرى خاصة بين الافراد الذين تتغير مواقفهم تبعاً للاوضاع والمناخات السائدة .

فالتعصب شر بذوره الحقد والكراهية ,وحصاده الموت والفعل والخراب .

فاطفالنا مبرؤون من التعصب والكراهية والارهاب ,يولدون انقياء ناصعي البياض ,فلا نكتب في نفوسهم الا التسامح والمحبة والسلام ,ليكون المستقبل محبة وتفاعلاً وسلاماً .