لم يعد خافيا في تفاصيل المشهد السياسي في شرق المتوسط حرب التربص الأمريكي تجاه سوريا والتي تتوزع أدوارها وتتنوع أدواتها‏,‏ ويتعدد المشاركون فيها‏,‏ وكان التعامل السوري مع القرار‏1559‏ مفاجئا لكثيرين وإن كان قد فوت الفرصة للمتربصين وكشف اغراض القرار وأهدافه‏,‏ وجاء الانسحاب السوري الكامل لقطعانها العسكرية وعناصر الأمن علي مرأي ومسمع من العالم كله‏,‏ ليعجل بكشف اهداف القرار‏,‏ فقد توالت الاتصالات الدولية ملوحة بضغوط علي بيروت لنزع سلاح حزب الله وتوجت هذه الضغوط بزيارة وزيرة الخارجية الأمريكية كوندوليزا رايس في شهر يوليو الماضي والتي لم تترك مسئولا لبنانيا ولا مرجعا دينيا دون التطرق الي قضية سلاح حزب الله وضغطت رايس بقوة علي كل المراجع السياسية والطائفية في لبنان في إشارة واضحة إلي أن ثمن الدم الأمريكي لاستصدار القرار‏1559‏ وخروج القوات السورية هو نزع سلاح حزب الله‏,‏ وهي فقرة نص عليها القرار دون أن يسمي حزب الله واكتفي بتعبير نزع سلاح الميليشيات المسلحة‏.‏

والملاحظ خلال ثلاثة أشهر من الانسحاب السوري ان غلاة المعارضين لوجودها هم أكثر الناس مناداة ودعوة الآن الي علاقات خاصة ومميزة مع سوريا تراعي خصوصية التاريخ والقربي والجغرافيا وعدم الانفراد السياسي وعدم السماح بأن يصبح لبنان بوابة لتدخل دول ضد سوريا‏,‏ والملاحظ انه ايضا خلال هذه الأشهر الثلاثة استيقظت شرارات الطائفية وبدأت دعوات الفيدرالية طائفية في لبنان‏..‏ وفيدرالية الطوائف لمن لا يعرف ـ وهم كثيرون ـ أن تتصارع تسع عشرة طائفة علي مساحة عشرة آلاف في كيلو متر مربع هي كل ساحة لبنان كانت سوريا بثقلها السياسي صمام أمان ضد اندلاع هذه النعرات‏,‏ كانت حامية لنسيج لبناني واحد يمارس العيش المشترك‏.‏ والواقعة تاريخية يعرفها ويشهد بها الجميع أن الرئيس السوري الراحل حافظ أدخل القوات السورية الي لبنان لحماية الموازنة تحديدا من مذبحة وشيكة ودخل ضد حلفائه التقليديين ورفض كل طلبات الأصدقاء بتأجيل دخول القوات السورية لكي يتمكن محاصرو المسيحيين من إتمام مذبحتهم‏,‏ دخلت سوريا حفاظا علي أرواح المسيحيين ودفاعا عن شرف المسلمين وليس سرا أطراف هذه الواقعة التي تمت مصالحتها مؤخرا في زيارة معلنة من وليد جنبلاط الي جبل لبنان ولقاء البطريرك صفير والملاحظ أيضا أنه خلال الأشهر الأربعة الماضية التي تلت الخروج السوري من لبنان أن توالت عمليات تفجير في أحياء بعينها معروفة بهويتها الطائفية من قبيل إذكاء نار الفتنة‏,‏ وكان آخر المفاجآت أن اكتشف الأمن اللبناني الأسبوع الماضي مخزنا يحوي طنا من مادة الـ ت‏.‏ ن‏.‏ ت في إحدي الضياع المسيحية وبالتأكيد فإنه لا أحد يدافع أو يطالب ببناء سوري في لبنان‏,‏ وسوريا نفسها كانت تري ان وجودها هناك عبء لوجيستي ومادي وسياسي‏.‏ ولكن الحالة اللبنانية لم تنضج بعد‏,‏ فالطائفية سلوك يومي وسياسي وهو يهدد بالانفجار في أي لحظة‏,‏ الوظائف بما فيها المناصب الأمنية والعسكرية توزع حسب الطائفة وليس الكفاءة والخبرة والأقدمية والمواطنة‏,‏ ثقافة الطائفية وعدم نهاية الطائفة السياسية هو الذي يهدد لبنان بالانفجار‏.‏

انتهي الاستخدام الأمريكي في حملة التربص ضد سوريا لورقة لبنان واستمر في ورقة ضبط الحدود مع العراق‏,‏ ولم ترد أمريكا علي خطاب سوريا بضبط الحدود من الجانب العراقي حيث أن القوات الأمريكية الأقدر والاكثر استخداما للتكنولوجيا‏,‏ وطالبت سوريا الولايات المتحدة بتقديم دعم لوجيستي لمساعدتها في ضبط اكثر من‏600‏ كيلو متر هي حدودها مع العراق ووجهت سوريا الدعوة لممثلين للقيادة المركزية الأمريكية لتفقد الحدود‏,‏ وشددت نقاط المراقبة وأشهدت العالم علي هذه الاجراءات من خلال رحلات دورية لمراسلي محطات التلفزة العالمية ووكالات الأنباء الي الحدود‏.‏

هنا بدأت مرحلة جديدة من حملة التربص الأمريكي ضد سوريا‏,‏ كانت وزيرة الخارجية الأمريكية قد أطلقت دعوة الفوضي الخلاقة واعتمد الكونجرس مبلغ‏300‏ مليون دولار كتخصيص أولي لدعم نشر الديمقراطية في الشرق الأوسط وتم وضع المبلغ تحت تصرف وزارة الخارجية‏.‏ وساهم هذا الموقف في تنوع المشاركين في حملة التربص الأمريكي ضد سوريا فقد تحولت الجهود الطوعية التي كانت تتم لمهاجمة سوريا الي جهود منظمة‏,‏ وكما يقول أحد كبار الصحفيين العرب المخضرمين إن السفارات الأمريكية في عدد من عواصم الشرق الأوسط بدأت تسلم لبعض من الكتاب والباحثين مادة إعلامية ملغومة وينشرها هؤلاء بأسمائهم‏,‏ وبدأت تنظم حملة استنادا علي بعض المواقع‏..‏ الغربية والعربية علي الانترنت وبعض الكتابات الاسرائيلية والتي استخدمها هؤلاء الصحفيون والباحثون العرب كمصدر ومرجع لمعلوماتهم‏.‏ وواقع الامر أن حظر العمل السياسي في سوريا وهو جوهر القضية الديمقراطية هو العمل السياسي علي اساس ديني وتحديدا جماعة الاخوان المسلمين وهي في ذلك شأن كل الاقطار العربية دون استثناء ولم يكن غريبا ان تفتقد هذه الكتابات للموضوعية والعالمية‏,‏

فلا احد يكتب عن المشروع التنموي السوري الذي حقق مالم يحققه قطر عربي‏,‏ فسوريا هي الدولة العربية الوحيدة التي لديها اكتفاء ذاتي في الغذاء ولديها فائض للتصدير رغم ان زراعتها تعتمد علي الامطار‏,‏ ولديها احتياطي نقدي في البنك المركزي يقارب‏25‏ مليار دولار وتحافظ علي سعر صرف عملتها الوطنية وتقدم افضل مزايا للمستثمرين مقارنة بدول الجوار الاقليمية وبنية أساسية متطورة تكفل وصول الخدمات الأساسية من إنارة ومياه نقية وصرف صحي ووحدات صحية ومدارس حتي أصغر تجمع سكاني ولو كان في أطراف البادية السورية ولكن فيما يبدو فإن سياسة الاعلام السوري التي يتبعها منذ أن تولي الرئيس بشار الأسد المسئولية قد أغرت صغار المنتفعين بمواصلة الهجوم علي سوريا كجزء من حملة تربص أمريكي بسوريا‏,‏

والمؤكد ويعرفه المقيمون في سوريا وحتي في خارجها والمتابعون لإعلامها ـ أن هناك توجيها بعدم الدخول في معارك اعلامية مع احد في هذا القطر او ذاك مهما كانت طبيعة الهجمات‏.‏ ولعله لكي تكتمل الصورة من المفيد أن نطرح سؤالا بسيطا‏:‏ ماذا تريد سوريا من الولايات المتحدة؟ وماذا تريد أمريكا من سوريا وفق منطق العلاقات الدولية وتوازنات القوي والقطب الاوحد التي تدركها تريد علاقة قائمة علي الاحترام والمصالح المشتركة واحترام الشرعية الدولية وكما عبر الرئيس بشار الاسد في اكثر من مناسبة ليست لنا مشكلات مع الولايات المتحدة الامريكية ولكن مشكلاتنا مع اسرائيل التي تضغط علي الولايات المتحدة لافتعال مشاكل معنا‏..‏ تريد سوريا سلاما عادلا يعيد اليها أراضيها المحتلة في الجولان وأن تنسحب اسرائيل الي خطوط الرابع من يونيو‏,‏ وفق قواعد القانون الدولي وقرارات الامم المتحدة التي صدرت لكي تنفذ لا لكي يتم التفاوض حولها‏.‏

الولايات المتحدة الأمريكية وتيار المحافظون الجدد يعرفون مقولة جون فوستر دالاس مهندس سياسة حافة الهاوية والأب الروحي لليمين الأمريكي عن أن سوريا هي اضخم حاملة طائرات شابة في التاريخ‏..‏ فهي موقع حاكم في الاستراتيجية العالمية لا يجوز التفريط فيه ولا يسمح لأحد باللعب فيه‏.‏ والادارة الأمريكية تدرك ان مشروعها في شرق المتوسط لن يتم دون سوريا‏..‏ حاملة الارث الانساني والتاريخي والديني في المنطقة‏,‏ فقط عليها ان تتخلي عن أفكارها القومية وانتمائها العربي وان تقبل بمشاركة إسرائيلية وان تمهد المنطقة للمشروع الأمريكي وبديهي خلفه المشروع الإسرائيلي‏,‏ هذا التناقض المبدئي هو الذي يدفع أمريكا لقيادة حملة التربص من قبيل الضغط المرن علي سوريا‏..‏ تمارس ضغطا سياسيا وإعلاميا علها تخاف وتتراجع وتتفاوض مع المشروع الأمريكي من نقطة قبول ولكن هذا علي ما يبدو لن يتحقق مهما شارك في الحملة عرب يتلقون مقالات وأبحاثا أمريكية‏..‏ ففي شوارع سوريا ظلال التاريخ وإرث الحضارة العربية وهي ببساطة قادرة علي حماية نفسها باكتفائها واعتزازها القومي الذي أصبح دورا ورسالة وقدرا‏.‏

مصادر
الأهرام (مصر)