مثلما في الساحة السياسية، كذا في الجبهة الامنية - السياسية انتهى هذا الاسبوع على ارييل شارون بشكل أفضل بكثير مما بدأ. ففي مركز الليكود حول النائب عُمري شارون ووزير الخارجية سيلفان شالوم خسارة شبه مؤكدة لرئيس الوزراء الى انتصار طفيف. أما الانجاز على حدود القطاع - رفع علم أبيض من منظمات الارهاب الفلسطينية - فجلبه لشارون وزير الدفاع شاؤول موفاز، ورئيس الاركان دان حلوتس.
القناتان مرتبطتان ارتباطا وثيقا الواحدة بالاخرى كما ظهر ملموسا على نحو واضح في قضية الاغتيال في وقت البث الاعلى: تصفية كبير "الجهاد الاسلامي"، محمد الشيخ خليل، في لحظة ذروة الصراع في الليكود (في الجيش الاسرائيلي مستعدون للقسم بأن التوقيت كان صدفة تماما). الازمة الامنية التي علق فيها شارون السبت الماضي، مع ضجيج صواريخ "حماس" على سديروت، شددت الورطة السياسية حوله وشجعته على مطالبة الجيش الاسرائيلي برد حاد على الهجمات. الرد العسكري المتصلب ربما حسن قليلا وضعه في التصويت يوم الاثنين.
ولكن يوجد شيء آخر مشترك في المواجهتين: في كليهما يدور الحديث عن نجاحات سيكون من الصعب الحفاظ عليها لزمن طويل، وذلك لانها لا تحل التناقضات الاساس التي يؤدي فيها شارون مهامه. فمثلما في الليكود سيجد رئيس الوزراء صعوبة في قيادة كتلة معظم اعضائها لا يزالون يعارضون طريقه السياسية، ليس واضحا كيف سيتمكن من تحقيق مسعاه في الساحة الفلسطينية، حيث تعمل الآن اسرائيل على اخراج "حماس" من اللعبة السياسية في السلطة (في كانون الثاني ستعقد انتخابات للبرلمان) ولكن تعرف انها اذا ما نجحت في ذلك فستدفع الحركة الى استئناف حربها الارهابية ضده.
كان هذا كما ادعوا هذا الاسبوع في شعبة الاستخبارات العسكرية "قضية كارين إي لحماس". قادة الحركة الذين بشكل عام يحصلون من رجال الاستخبارات الاسرائيليين على بيان رأي مثن على كفاءاتهم في ادارة شؤونهم، ارتكبوا هنا سلسلة من الاخطاء، اخذت فقط في توريطهم. ولكن الخطوة الاولى في سلسلة التصعيد كانت بالذات اسرائيلية: حملة الوحدة الخاصة لاعتقال ثلاثة من نشطاء "الجهاد الاسلامي" في قرى شمال طولكرم ليلة يوم الخميس والتي انتهت بتبادل للنار وبموت الثلاثة.
رد "الجهاد" عصر الجمعة (خمسة صواريخ اطلقت، واحد سقط في نطاق الخط الاخضر) وضعت اسرائيل أمام القرار. قبل الانسحاب، مداولات "اليوم التالي" انشغل اعضاء المجلس الوزاري ومسؤولو الجيش الاسرائيلي كثيرا في مسألة "القسام" الثاني. صاروخ واحد، كما ادعوا، يمكن كيفما اتفق التجاهل، ولكن اثنين يستوجبان ردا حادا، والا ستحول المنظمات الفلسطينية بلدات "غلاف غزة" الى صيغة جنوبية لما أحدثه "حزب الله" بمواقع الجيش الاسرائيلي في هار دوف. هذه المرة اطلقت "الجهاد" اكثر من صاروخ. ومع ذلك تقرر ضبط النفس. وبدل الرد نقل الى السلطة الفلسطينية طلب وصف بـ"حازم" باعتقال ناشطي "الجهاد" اللذين شاركا في اطلاق الصواريخ. وعلى نحو غير مفاجئ امتنعت السلطة عن العمل ولكن عندها جاءت الحادثة في جباليا وفاقمت التوتر من دون حدود.
الاهمال في معالجة المواد المتفجرة التي عرضت بمباهاة في مسيرة "حماس" في المخيم، أدت الى انفجار قتلت 19 فلسطينيا. "حماس"، قال رئيس شعبة العمليات في هيئة الاركان، اللواء يسرائيل زيف اتخذت "قرارا جبانا. الكذب واتهام اسرائيل بالهجوم ومهاجمة سديروت". القصف - نحو أربعين صاروخا في غضون ساعات عدة - مع أنها أحرجت شارون ، لانها اثبتت ان الانسحاب من غزة لا يحسن في هذه المرحلة أمن سكان سديروت، الا أنها لم تخفف عن "حماس".
السلطة، بعد بضعة "تلعثمات"، ردت رواية "حماس" واتهمت الحركة باستعراض قوى تظاهري أدى الى قتل لا داعي له للمواطنين. وبعد يومين من انعدام اليقين، قبل الرأي العام الفلسطيني موقف السلطة أيضا. ففي مكان مكتظ مثل جباليا، يكاد يكون فيه لكل عضو "حماس" أخ او ابن عم في "فتح". من الصعب اخفاء الحقيقة.
تراجع سريع
حين تبين ان ليست "حماس" وحدها هي التي أهملت بل ان عملها اعاد دائرة العنف الى القطاع، ظهر انتقاد جماهيري. في شعبة الاستخبارات العسكرية يعترفون بأن هذا، اكثر بكثير من الضغط الاسرائيلي، هو السبب الاساس للانثناء السريع للحركة، التي يوم الاحد مساء اعلنت عن وقف نار الصواريخ. "حماس" في القطاع تجيد قراءة بواطن قلب السكان. استئناف القصف الجوي بعد أقل من اسبوعين من الانسحاب لم يكن مقبولا في نظرهم. وكانت لموقف "حماس" جوانب اخرى: تحطمت صورة الحركة المستقيمة الطريق، التي يتحدث زعماؤها بالحقيقة ويركزون على حماية حياة المواطن الفلسطيني.
واضافت اسرائيل الى رد فعلها بُعدا شخصيا. اشخاص كانوا مع اسماعيل هنية، من كبار رجالات الحركة، يروون بأن الدم نفد من وجهه حين بدأت "البومبات" فوق الصوتية لسلاح الجو في سماء القطاع ووصل تقرير عن استئناف التصفيات. في الايام التالية، قلص قادة "حماس" من ظهورهم العلني. بعضهم، حسب صحافيين فلسطينيين، اغلقوا هواتفهم المتنقلة خشية المتابعة الاسرائيلية. و"حماس" انتقلت في ضربة واحدة من الاحتفال بالنصر الى موقف الدفاع عن النفس.
للوهلة الاولى، الخطوة الاسرائيلية المطلوبة الآن هي وقف الهجمات، على أمل أن يكون الدرس قد لقّن. ليس هذه المرة. فعندما كان واضحا ان "حماس" تنزل عن الشجرة، جاءت تصفية ناشط من "الجهاد". وفي الغداة، عندما وعدت "الجهاد" ايضا بالكف عن النار، قصفت المزيد من المكاتب والمخازن لمنظمات الارهاب في القطاع واستمرت موجة الاعتقالات الكبرى للنشطاء الاسلاميين في الضفة. يوم الثلثاء جاء وزير الدفاع لزيارة بطارية المدفعية التي نصبت يوم السبت في حدود القطاع. الصحافيون توقعوا التقاط صورة الا ان موفاز وفر لهم أكثر من ذلك. فقد هدد بارسال هنية ومحمود الزهار "الى المكان الذي يوجد فيه احمد ياسين وعبد العزيز الرنتيسي". وقال ان جنود المدفعية "لا يوجدون هنا للزينة". وبعد ساعات عدة قصف رجال المدفعية بالفعل بيت حانون، ردا على صاروخ آخر اطلق على سديروت.
الضرب المستمر للصواريخ، على ما يبدو من عمل نشطاء فصائل صغيرة، وفر لاسرائيل مبررا لمواصلة هجماتها. ولكن اللواء زيف يدعي بان حملة "اول الغيث" في القطاع كانت أكثر بكثير من ذلك. فقد قال ان الحملة تعبر عن "نهاية عهد المعادلات والردود الموضعية. المنظمات لم تعد تقرر جدول الاعمال، هذا الأمر قد انتهى. في الوضع الجديد، يحظر تنفيذ اي عملية هجومية ضد اسرائيل من اراضي القطاع". الجيش الاسرائيلي، اضاف زيف، سيعمل من دون قيد زمني او قوة، الى أن تفهم الرسالة الجديدة بكاملها.
لدى زيف، مثلما لدى الناطقين الآخرين، بدا واضحا هذا الاسبوع، الجهد لتثبيت الوضع الجديد، لرسم قواعد صلبة للمسموح والممنوع (للفلسطينيين). ومع أن الخطوات محدودة ولا توجد في هذه اللحظة نية للدخول الى اراضي السلطة، فان التقدير هو أنها ستكون ناجعة بما فيه الكفاية في ضوء الحزم الذي استخدمت فيها. وبدل استمرار الرقص المعقد للعملية والرد، خطوة الى الامام وخطوة الى الوراء، سلسلة ضربات لا تنسى، مثلما تعهدت اسرائيل بعمله في لبنان بعد الانسحاب، تعهدت - ولم تفِ.
لا فصل
خلف الهجوم في المناطق يقبع اعتبار آخر. شارون قال في زيارته الى الامم المتحدة، ان في نيته التشويش على مشاركة "حماس" في الانتخابات البرلمانية. في الجيش وفي القيادة السياسية يعتقدون بأن الهجوم على الحركة يجعل وضعها صعبا في هذا الجانب أيضا. نار الصواريخ واختطاف ساسون نوريئيل وقتله ذكّرت مرة اخرى أن "حماس" هي منظمة ارهابية. وهكذا جعلوا صعبا الخط الذي تحاول الحركة تسويقه وكأنه يوجد فصل جوهري بين الذراع السياسي والعسكري، على نمط الشين فاين، والـ "اي.ار.ايه" في شمال ايرلندا.
وتقيم اسرائيل معارضتها لمشاركة "حماس" في الانتخابات طالما لم تضع سلاحها، على اساس بضع حجج. فهي تصف الحركة كهيئة ارهابية، معادية للديمقراطية طبيعتها؛ وهي تذكر أن السلطة قامت بفعل اتفاقات اوسلو وانه يوجد بند في الاتفاق الانتقالي يحظر على من يحاول حث أهدافه بوسائل غير قانونية المشاركة في الانتخابات؛ وهي ستدعي بان "حماس" تعارض مجرد وجودها وهي التي يعد الاعتراف بها جزءاً من رسالة ياسر عرفات الى اسحاق رابين، والتي اتاحت المجال لاتفاقات اوسلو.
هذه الحجج لاقت هذا الاسبوع في العالم مزيدا من الانصات، في جانبه تسامح دولي مفاجئ تجاه استمرار القصف في القطاع. وحسب السيناريو المتفائل، فان حرج "حماس" سيفرض كبح جماح على نشطائه في الفترة القريبة المقبلة. وحسب السيناريو الاكثر تفاؤلا، فان الحركة سيتعين عليها أن تعيد النظر وتتنازل عن السلاح في سبيل الانتخابات، وذلك لان طلب اسرائيل سيلقى العطف في الولايات المتحدة وفي اوروبا. في السيناريوهين، السلطة هي في هذه اللحظة لاعب ثانوي فقط. الجيش والمخابرات الاسرائيلية يتنافسان بينهما في وصف ضعف الرئيس محمود عباس (ابو مازن). ضابط في هيئة الاركان شبهه هذا الاسبوع، على نحو غير مثن على نحو خاص بذاك الفارس في فيلم "مونتي فايتون" الذي يفقد عضوا إثر عضو ولكنه يواصل الادعاء انه على قيد الحياة "مع فارق ان لـ "أبو مازن" قدرا أقل من الروح القتالية".
في اسرائيل يتعاطون باستخفاف للاوصاف التي تطلق من محيط جبريل الرجوب، وكأن تهديدات من جانبه ومن جانب الرئيس هي التي فرضت على "حماس" العودة الى التهدئة. فيما يجري في المناطق نبش هذا الاسبوع زعيم ضعيف آخر، بشار الاسد. ففي اجتماع مع قادة منظمات الارهاب في دمشق ألمح الرئيس السوري بان عليهم العودة الى العمليات ضد اسرائيل، على ما يبدو انطلاقا من التفكير بان الأمر سينقذه من الاهتمام المبالغ فيه من جانب الادارة الاميركية. ولكن حتى تأثير الاسد على "حماس" في دمشق لم يعد يعتبر ذا أهمية اليوم.
في هذه اللحظة، استمرار اليد الحديدية في القطاع مجد من الناحية السياسية الداخلية لشارون وموفاز. تكفي رؤية صورتيهما يبتسمان لقراءة التقرير عن تصفية رجل "الجهاد". وهذا مريح ايضا للجيش الذي سيسره التحرر من ذاكرة فك الارتباط بقتال آخر (طالما لا ينطوي على تعريض القوات البرية للخطر). وهذا يطابق تماما طبيعة دان حلوتس الذي يفضل اتخاذ خط قوي وواضح وعدم الغرق بحسابات لا نهاية لها عن طرق العمل المحتملة للخصم. وحتى الآن، إذا ما توقف اطلاق صواريخ "القسام" تماما، فستتوقف قريبا أيضا الهجمة الاسرائيلية. اما بالمقابل اذا ما استمرت المناكفة، فيبدو أن اسرائيل تقف أمام مشكلة.
للتحفظ على تنافس "حماس" في الانتخابات يوجد ما يمكن الاستناد اليه، الايديولوجية المتطرفة لديها والاحتمال في أن تصبح شريكة للسلطة بعد النجاح في صناديق الاقتراع. ولكن المسألة هي متى يتحول الضغط الكبير الى ضغط اكبر مما ينبغي؛ متى تكون هجمات الجيش الاسرائيلي سهما مرتدا، يعزز العداء لدى الجمهور في القطاع لاسرائيل بدل ضرب "حماس".
على مدى المواجهة عانى أصحاب القرار هنا من ظاهرتين سائدتين: تفاؤل زائد وثقة مبالغ فيها بقوة الاتقان الاسرائيلي لممارسة سلسلة خطوات مركبة، نهايتها هي تحقيق الاهداف السياسية. منذ استقالة موشيه يعلون مع انهم لم يعودوا يتحدثون عن "كي الوعي"، ولكن سيناريو تصعيد الصراع ضد "حماس" ليؤدي الى تنازل الحركة عن سلاحها يبدو، على الاقل في هذه اللحظة، بعيدا اكثر مما ينبغي.
كما أن العطف والفهم الدوليين يمكنهما أن يذوبا في لحظة. ايهود باراك تعلم ذلك في ايلول 2000، عندما حطمت صورة واحدة - للطفل محمد الدرة في مفترق نيتساريم - "الحملة" العالمية التي بناها بجهد جم لادانة عرفات بفشل مؤتمر كامب ديفيد في تموز. وبينما عندما تستخدم قوة عسكرية تتضمن طائرات حربية وبطاريات مدفعية، الكثير يمكن ان يتشوش. احيانا أيضا خطط اكثر تواضعا تفشل. هذا ثبت في هذا الاسبوع، في ظروف مغايرة تماما، عندما سقطت مناشير بالعربية كانت معدة للحرب النفسية من الجيش الاسرائيلي في بيت حانون، سقطت - بسبب تغيير بسيط في اتجاه الريح - بالذات في ساحات سكان سديروت.

مصادر
هآرتس (الدولة العبرية)