الصدفة وحدها هي التي حملتني إلى سورية قبل يوم واحد من إلقاء الرئيس بشار الأسد الخطاب الذي وجهه إلى شعبه من جامعة دمشق وشرح فيه رؤيته للأزمة التي تواجه سورية وتتصاعد كل يوم مثل كرة الثلج المتدحرجة من أعلى التل، خصوصًا منذ صدور قرار مجلس الأمن الرقم 1636. وأتاحت لي هذه الصدفة أن أتابع باهتمام، ومن دمشق نفسها، خطاب الأسد وردود الفعل عليه. ولأن هذا الخطاب بدا لي جسورًا ومتحديًا بدرجة غير مسبوقة، حرصت على التعرف بنفسي الى طريقة تفاعل الشارع السوري معه، خصوصًا بين صفوف الشباب. وأعترف بأن دهشتي كانت كبيرة، ففيما كنت أتوقع أن تطفو مشاعر خوف من مصير مجهول ينتظر سورية في هذه اللحظات القلقة، إذا بي أفاجأ بأن روح التحدي كانت هي الغالبة.

لا أدعي أنني قمت برصد علمي ومنهجي لرد فعل الشعب السوري، غير أنه أتيح لي أن أتبادل أحاديث قصيرة وعفوية تمامًا مع عدد من الشبان الذين تصادف احتكاكي بهم في الفندق والشارع أو في المطعم والمتجر. وخرجت من هذه الأحاديث بانطباع مفاده أن التلاحم قائم بين الشعب السوري وقيادته في المرحلة الحالية، وأن تحفظات الشعب السوري عن بطء عملية الإصلاح السياسي لم تحل من دون التفافه حول قيادته وتأييده الجارف لموقفها المتحدي للولايات المتحدة. وتفسيري أن الخطاب بدد إحساسًا عميقاً بالإهانة كان ينتاب الكثيرين بسبب الصلف الأميركي، من جهة، والسلوك المستفز لبعض الأطراف اللبنانية من جهة أخرى. ويبدو لي أن الشارع السوري كان يخشى السيناريو الليبي بأكثر مما يخشى السيناريو العراقي، وبالتالي كان في أَمَس الحاجة إلى مَنْ يقول له إن سورية لن تنحني لأحد إلا لله الواحد الأحد. ولذا يمكن القول باطمئنان أن خطاب الرئيس بشار الأسد ولَّد شعورًا عميقًا بالارتياح لدى غالبية الشعب السوري، على رغم أنه بدا لأطراف وأوساط دولية أو عربية معينة متحديًا ومستفزًا بأكثر مما ينبغي.

أثار انتباهي قول الرئيس بشار الأسد في خطابه إن تسارع الأحداث فرض عليه التعجيل بلقاء كان مقدراً له أن يتم بعد أسبوع. لذا رحت أتساءل عما عسى أن تكون عليه تلك الأحداث التي فرضت على الرئيس أن يبكر بالموعد المقرر لإلقاء خطابه والتي قد تكون لعبت دوراً رئيساً في رفع وتيرة التحدي فيه ونغمته ومستواه على النحو الذي شهدناه وأحسه الجميع. ولم تكن هناك صعوبة كبيرة في استجلاء حقيقة الأمر. فسرعان ما اكتشفت، سواء من خلال ما نشر في بعض الصحف غير السورية (راجع مقال راغدة درغام في «الحياة»: 11/11/2005) أو ما سمعته من مصادر مختلفة في دمشق، أن هذا التحدي جاء كرد فعل على موقف ديتليف ميليس المتشدد الذي وصل إلى حد توجيه ما يشبه الإنذار إلى سورية. وأدركت القيادة السورية هذا الموقف كدليل على تورط ميليس في المؤامرة الرامية لمحاصرة دمشق، وحرصه على إهانة سورية والمساس بكرامتها بأكثر من حرصه على كشف الوقائع الحقيقية للجريمة التي أودت بحياة الحريري.

ففي الرابع من تشرين الثاني (نوفمبر) وجه ميليس خطابًا إلى وزير الخارجية السوري طلب فيه مثول ست شخصيات سورية بينها خمس مشتبه بهم والسادس كشاهد، وحدد المكان (وهو مقر اللجنة في فندق مونتفيردي)، والمواعيد (الساعة الحادية عشر من أيام 15، و16 و17 تشرين الثاني بواقع مقابلة مع اثنين من المطلوبين يوميًا). وكان لافتاً أن ميليس اقترح تسليم المطلوبين عند الحدود اللبنانية السورية، وهو ما يعني ضِمنًا أنهم سيصبحون بالضرورة تحت سيطرة السلطات اللبنانية التي ستصطحبهم إلى مقر اللجنة في بيروت. ولم يكتف ميليس بهذا، وإنما عبَّر عن رغبته أيضاً في إجراء لقاء مع فاروق الشرع نفسه، بصفته شاهدًا، مقترحًا أن يتم هذا اللقاء في جنيف إما يوم 23 أو 24 تشرين الثاني (نوفمبر).

لم ينس الوزير فاروق الشرع, في رده على خطاب ميليس أن يذكر هذا الأخير بصدور قرار رئاسي بتشكيل لجنة قضائية خاصة برئاسة النائب العام للجمهورية السورية السيدة غادة مراد، وتكليفها بتولي إجراءات التحقيق مع الأشخاص السوريين في كل ما يتصل بمهمة لجنة التحقيق الدولية المستقلة المشكلة بموجب قرار مجلس الأمن، وهو ما يعني أن هذه اللجنة باتت, من وجهة النظر السورية، هي الجهة الرسمية المخولة بتنظيم التعاون مع اللجنة الدولية ومع السلطات القضائية اللبنانية في كل ما يتعلق بقضية اغتيال رفيق الحريري. وكانت القاضية مراد أرسلت إلى ميليس خطابا تدعو فيه اللجنة الدولية إلى زيارة سورية للبحث في أسس التعاون بين اللجنتين، وتقترح فيه توقيع بروتوكول يحدد هذه الأسس ويكفل حقوق وواجبات كافة الأطراف المعنية.

غير أن ميليس تجاهل وجود اللجنة السورية تمامًا, وعاود الكتابة إلى وزير الخارجية السوري, فأرسل له كتابًا في الثامن تشرين الثاني (نوفمبر) يشير فيه إلى أنه «أخذ علمًا بتشكيل اللجنة القضائية السورية، وأنه يتطلع قُدما لتلقي أي معلومات أو أدلة ترغب الحكومة السورية التشاطر فيها مع اللجنة الدولية، لكن ذلك لا يلغي أو يحل محل الطلبات التي تقدمت بها اللجنة الدولية والتي يحق لها وحدها تحديد موعد ومكان إجراء المقابلات وفقا لقرار مجلس الأمن». وفي لهجة غلب عليها طابع التهديد والوعيد وجه ميليس إلى سورية ما يشبه الإنذار حين أضاف قائلا إنه «يتوقع ردًا على طلباته قبل يومين، وذلك من أجل تسهيل الترتيبات اللوجستية المتصلة بأجراء المقابلات (...) وإلا فإنه سيحيل المسألة إلى مجلس الأمن».

وفي تقديري أن رسالة ميليس التي لم تمهل سورية سوى 48 ساعة لتسليم المطلوبين السوريين، هي التي دفعت بالرئيس الأسد إلى التعجيل بإلقاء خطابه الذي يمكن اعتباره في الواقع ردًا علنيًا رافضًا لما تضمنته من طلبات وإنذارات وتهديدات. وفي تقديري أيضاً أن هذه التطورات أفصحت عن تصارع استراتيجيتين لإدارة الأزمة، أحداهما هجومية، وتقودها الولايات المتحدة وفرنسا من خلال مجلس الأمن, والأخرى دفاعية، وتقودها سورية وحدها. وستظهر لنا الأيام والأسابيع المقبلة ما إذا كان القرار السوري بالانتقال من مواقع الدفاع إلى مواقع الهجوم - وهو ما تقترحه أي قراءة مدققة لخطاب الرئيس بشار - سيجبر الطرف الآخر على التراجع إلى مواقع دفاعية، بما يهيئ لتوفير ظروف أفضل للبحث عن مخرج للأزمة، أم أنه سيؤدي، على العكس، إلى تصعيد يخرج عن نطاق السيطرة ويدفع بالأمور حتما في اتجاه المواجهة. ولكل من الاستراتيجيتين المتصارعتين على الساحة نقاط قوتها ونقاط ضعفها.

قوة الاستراتيجية الغربية تعتمد في الأساس على الشرعية الدولية ممثلة في مجلس الأمن. فالقرار 1636 أظهر أن مجلس الأمن يقف موحداً وبقوة، وراء تقرير للمبعوث الأممي يشير بإصبع الاتهام إلى سورية ويجبرها بالتالي على اتخاذ موقع الدفاع. غير أن الشرعية الدولية، وفي ضوء السلوك السابق للأمم المتحدة في العراق، لم تعد فوق مستوى الشبهات، ما منح سورية فرصة الادعاء، عن حق، بأن الولايات المتحدة وفرنسا تحاولان استخدام قضية اغتيال رفيق الحريري كذريعة للوصول إلى أهداف سياسية أخرى لا علاقة لها بالقضية الأصلية. وهناك معلومات موثقة سهلت على سورية مهمة التدليل على صحة وجهة نظرها هذه. فالقرار 1559 سابق على اغتيال رفيق الحريري، ومطالب الولايات المتحدة تجاه سورية كانت ولا تزال تستهدف حملها على تغيير سياستها تجاه العراق والصراع العربي - الإسرائيلي بأكثر مما تستهدف البحث عن المتورطين في مقتل الحريري. وكان في وسع سورية أن تشكك، وبسهولة، في نزاهة كل من الأمم المتحدة والإدارة الأميركية الحالية، مستخدمة في ذلك سجل لجان التفتيش التابعة للأمم المتحدة على أسلحة الدمار الشامل في العراق وسجل الإدارة الأميركية الحالية في «فبركة» المعلومات المزيفة والكاذبة لتبرير حربها على العراق. ومن حق أي مراقب، في سياق كهذا، أن يتساءل: لماذا يصبح من حق اللجنة الدولية أن تشكك في ضلوع سورية في مقتل رفيق الحريري، وهي شكوك قد يكون لها، نظريًا على الأقل، ما يبررها، بينما لا يحق لسورية أن تتشكك في نيات الولايات المتحدة تجاهها وفي سلوك لجنة دولية لا يستبعد أن يكون متأثرة بالضغوط أو بالإغراءات الأميركية المعهودة. ويبدو هذا السؤال مبررًا أكثر في ضوء ما كشفت عنه أجهزة الإعلام الغربية أخيراً من أن أحد الشهود الذين اعتمد عليهم ميليس في توجيه الاتهام إلى سورية, وهو زهير الصديق، هو مجرد مجرم كبير وشاهد زور، وأيضاً في ضوء ما كشفت عنه الرسالة التي بعث بها أحد المسجونين السوريين في تركيا، وهو لؤي السقا، من أن أجانب عرضوا تهريبه من السجن ودفع 10 ملايين دولار في مقابل الإدلاء بشهادة كاذبة تقول أن آصف شوكت قابله وطلب منه البحث عن انتحاري عراقي لاغتيال الحريري وإعلان مسؤوليته بعد ذلك عن العملية أثناء تواجده في العراق.

أما قوة الاستراتيجية السورية فتعتمد في المقابل على قوة موقفها المعادي للسياسة الأميركية في المنطقة, ووضوح التحرش الأميركي بها, وخصوصًا في ضوء فشل سياسات واشنطن في العراق, وعلى حقيقة أن سورية كانت أكثر المتضررين بالفعل من اغتيال الحريري. غير أن التأييد الشعبي للسياسة الخارجية السورية لا يمكن أن يخفي في الوقت نفسه حقيقة التحفظات على نظام يبدو مستنداً في سياساته الداخلية على سطوة الأجهزة الأمنية، بديلاً من المشاركة الشعبية في صنع القرار، وحاول إحكام قبضته على لبنان اعتماداً على تحالف وتداخل شبكات الفساد مع شبكات الأمن. من هنا اعتقاد البعض بأن تصلب الموقف السوري قد يخفي وراءه رغبة في طمس الحقيقة، وعدم استبعاد احتمال تورط أجهزة أمن سورية في جريمة اغتيال الحريري.

وكما تملك الولايات المتحدة وفرنسا أوراقًا كثيرة تستطيع أن تضغط بها على سورية، فإن هذه الأخيرة تملك بدورها أوراقًا ضغط تمكنها من الصمود لفترة من الوقت انتظاراً لحدوث تغييرات في الوضعين الإقليمي والدولي. فلسورية حلفاء أقوياء في لبنان وفي إيران، ولها وسائل للتأثير في الوضع في العراق وفي فلسطين وكذلك الوضع العربي العام. وانغراس الولايات المتحدة في الوحل العراقي سيجعلها تتردد ألف مرة قبل الدخول في مواجهة عسكرية مع سورية. غير أنه من الخطورة أن تركن دمشق كلية إلى هذه الأوراق، وعليها ألا تستبعد كليا احتمال لجوء الولايات المتحدة إلى سياسة الهروب إلى الأمام، من خلال التصعيد العسكري. ومن هنا ضرورة أن تفكر سورية جديًا في تشكيل لجنة على أعلى المستويات لإدارة الأزمة سياسيًا وإعلاميًا واقتصاديًا عسكرياً وأن تتحسب لكل الاحتمالات.

وفي أي حال، فإن الأزمة لا يمكن أن تصبح قابلة للتسوية إلا إذا تم الفصل الكامل بين المطالب والأجندة الأميركية وبين قضية اغتيال الحريري. فالأخيرة فقط هي موضع الإجماع الدولي, بما فيه سورية. ولو أن ميليس يريد حقًا كشف حقيقة هذا الاغتيال, فلن يضيره قبول استجواب المطلوبين السوريين خارج لبنان، بل في إمكانه أن يمضي في استجلاء الحقيقة اعتمادًا على المعتقلين اللبنانيين فقط والانتظار حتى عقد المحاكمة الدولية لطلب إحضار المتهمين السوريين للمثول أمامها. لكن يبدو أن حرص ميليس على إسقاط النظام السوري أقوى بالفعل من حرصه على دم الحريري.

مصادر
الحياة (المملكة المتحدة)