قبل الخطاب المتوتر الأخير للرئيس بشار الأسد، كانت الاصطفاف السياسي في وجه دمشق ومعها يميل الى التراجع والاستقرار على مقدار من الاختلاف دون الخلاف. بعد الخطاب عاد الانقسام الى التصاعد بحدة في صفوف اللبنانيين، طبقةً سياسيةً متنوعة ومتداخلة، وقاعدةً شعبيةً تهدأ عندما يهدأ الأولون وتضطرب عندما يضطربون، وتخشى عودة الحرب التي تنعكس عليها اولاً بالسلب، وإن كانت هذه القاعدة ما زالت جاهزة للتواصل مع ذاكرة الحرب. اذ لم يستطع السوريون وأنصارهم (الذين اصبح بعض اعداء بعد الخروج من لبنان)، ولا خصومهم (الذين استقووا بالموقف الدولي بسبب أخطاء الأداء السوري)، قطع ذاكرة الحرب لدى اللبنانيين بمشروع عميق للسلم الصعب، ولكن غير المستحيل.

بعد الخطاب بات اللبنانيون من كل الحساسيات ينتظرون انفجاراً امنياً يعقب ازمة سياسية او ازمة حكم عميقة لاحت بداياتها الاولى في انسحاب وزراء «حزب الله» وحركة «امل» من جلسة مجلس الوزراء احتجاجاً على طرح خطاب الرئيس السوري للنقاش. هذه الازمة المحتملة، يستبعدها العارفون ببطائن الأمور وما خلف الوقائع الظاهرة من اسباب وعوامل واعتبارات ونيات سلام تدعو الى درجة من الطمأنينة، قد لا تصل الى حد الأمان الكامل، من استحقاقات صعبة، ستنعكس مزيداً من الويلات على المنطقة بأسرها، ما يستدعي كلاماً مختلفاً يشتغل على فرضية إمكان التفاهم اللبناني الداخلي الذي يمكن ان يشكل شرطاً لجدوى التفاهم اللبناني - السوري، ويجنب المنطقة، ومن ضمنها لبنان وسورية، ما قد يكون في انتظارها من مخاطر اضافية الى ما يتهددها من مخاطر راهنة، تراكمت بسبب القصور والتقصير وفتحت شهية اصحاب المصالح الإقليمية والدولية المشروعة وغير المشروعة، وأعطتهم فرصة للتدخل الذي يؤشر هذه المرة على احتمال استحواذ قاس وطويل الأمد على المقدرات والقرارات.

بلغ التوتر غايته لدى كل من طرفي المعادلة السياسية اللبنانية المعرضة على الدوام للاهتزاز وإعادة الفرز والضم بسبب تداخل شديد التعقيد بين المواقع والمصالح لدى الأطراف المتحالفة او المتخالفة. ومع بلوغه هذا المستوى، كان منطقياً ان نتوقع نهايته، او بداية تعقله، على اساس الكوارث المتوقع ان تترتب على انفجاره، او على الأقل وقوفه امام الحائط المسدود، حيث تقترب علامات الكارثة، فينهض العقلاء من المتصارعين ليعيدوا معاً استكشاف طريق الغد، وإعادة تأسيس الوعي الوطني الذي يمر بالطوائف والأحزاب ويتعداها، لتوسيع هذه المشتركات وصيانتها بالتسوية التي تحفظ الجميع، بعيداً من اوهام تحقيق الغلبة على اساس الأحجام والأوزان للأطراف التي ينعدم وزنها إذ ما انفردت وتوهمت انها غلبت غيرها في شكل مطلق وألغت الخصم او المختلف معها. ما يعني ان الذي يريد ان يحقق حجمه في الحضور والفاعلية ويحفظ وزنه، عليه ان يسعى الى المشاركة.

لقد وصلنا في لبنان الى بداية التماثل للشفاء والعافية، التي كان من علاماتها الإيجابية التي ترتبت على حادث بالغ السلبية، هو اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري، ان التعدد في ما كان يسمى موالاة للحكم قد شرع في الظهور، ما جعل مفهوم الموالاة والمعارضة مختلطاً او ملتبساً مع انعطافات في صفوف المعارضة التي دخلت في مفهوم الموالاة بعد الاستشهاد والانتخابات النيابية وتحقيق اكثرية نسبية، جعلت الحكومة من نصيب ما كان معارضة قبلها مع شراكة لما كان موالاة وصار أقرب الى المعارضة. في حين ان المعارضة الأقرب الى الموالاة الآن، تجاوزت اللقاء بين اطرافها على السلب ضد سورية نحو الثوابت الوطنية والإقليمية، من دون إخفاء التمايزات التي تظهر في صفوفها، وهي تمايزات تسر الناظرين إليها من الديموقراطيين الحقيقيين، لما تحمله من وعد بالتكامل من دون تكاذب وعلى قاعدة الاختلاف الطبيعي الضروري والمقبول والفعال.

وهكذا اصبح في إمكان أي منا ان يتخذ موقع المحايد بين الأطراف المنحاز للموضوع الوطني، من دون ان يكون ملزماً بعدم الميل العقلي او القلبي الى طرف اكثر من طرف، ومن دون ان يعدم في كل طرف وجوداً قوياً وفاعلاً لمن هم محسوبون على الطرف الآخر. هذا الحياد المنحاز يتسلح بنسبية الحق بين الأطراف، وإذا ما كان بعضنا يرى النسبة تميل لمصلحة طرف بعينه، فقد يكون محقاً، لكن هذه النسبة تتبدل بتبدل الأحداث والوقائع واستيعاب الأطراف لها، ما يعني ان كل الأطراف السياسية اللبنانية موقوفة على تحديات يومية لا بد ان تكيفها وتتكيف معها، فإذا ما سيطرت الإيديولوجيا السياسية النهائية على عقل طرف ما فإنها تقوده الى مزيد من الخطأ الذي لا ينعكس عليه وحده، بل ينعكس على الأطراف كافة وعلى لبنان في المحصلة. ان الرؤية النسبية، أي الرؤية التي تتلمس مقداراً من الحق موزعاً على كل الأطراف وخاضعاً للتغيير، ومقداراً من الباطل كذلك، هي التي ترجح التسوية سلوكاً وأسلوباً للحل ودائماً... حلاً يحتاج الى حل آخر، أي اعادة تسوية مفاعيل التسوية، بعد ان يقطع لبنان شوطاً على طريق الاستقرار. وهنا يتحقق الشرط والقدرة على التحكم بالعوامل الخارجية التي تتداخل مع العوامل الداخلية ويزيد تأثيرها سلباً بمقدار ما تكون العوامل الداخلية غير محصنة بحوار الاطراف الداخلية وشيء من التنازل عن الجزئيات حفظاً للكليات الوطنية، ومن اجل الوطن الواحد والدولة الواحدة، التي اصبح من الضروري الكف عن اختزالها في سلطة، أي في احدى وظائفها العظيمة ولكن ليست الوحيدة.

منطق السلطة ... والدولة

ان منطق السلطة اذا ما استحكم يحصر الشراكة في جماعات ضيقة ومغلقة، طالما ان عصبية الجماعة، لا المواطنة، هي الجامع. وتأخذ الجماعات الضيقة بتوسيع مساحة نفوذها التفتيتي بالتواطؤ مع أي كان من داخلها ومن خارجها، من اجل المكاسب، ثم لا تلبث ان تتناحر في ما بينها، او بينها وبين من تواطأت معه من خارجها (احزاب وطوائف) على المحصول الحرام، وتتبادل القول الفاضح في حق بعضها بعضاً.

عليه لا بد ان ينتصر منطق الدولة الواحدة الجامعة وان اختلفت في ما بينها، والتي تمثل السلطة اداتها لا غايتها، وتبني دورها وحيويتها على التبادل والتداول تحت سقف القانون والدستور. فالدولة التي تريد الحياة، لا بد ان تكف عن ترويج عوامل انفصالها الاجتماعي، ولا بد ان تلتمس حياتها وعيشها وحيويتها وتحددها من خلال الحوار الدائم بينها وبين اجتماعها، وبين مكونات هذا الاجتماع العام، وان كان لها طابع حزبي منفرد او جبهوي او أي طابع آخر تقليدي او حديث، عائلي أو طائفي او جهوي، فان في امكانها ان تكون وفية لمنابتها الطبيعية او السياسية من دون الغاء للآخرين، بل ومن خلال رفع العلاقة الى مستوى مشروع وطني يساعد في التخفيف من تحسس الآخرين وحساسياتهم، والا وضعت الدولة نفسها امام ضرورة العيش على التناقضات او بينها لتزيدها حدة وتناحراً، وتنفجر فيها وتفجرها كما حدث في كل التجارب الالغائية او الحصرية، شمولية كانت او غير شمولية.

ونفتح بهذا الكلام المشهد اللبناني على آفاقه الاقليمية والعربية، فهل يمكن في لبنان ان نقدم الامثولة المرجوة؟ أي الشروع في تسوية من اجل ان ننتصر معاً على انفسنا واعدائنا الذين يظهرون العداء او يموهونه، ومع اصدقائنا الذين يحسنون الصداقة والذين يسيئونها بالاساءة الينا واليها والى انفسهم في النهاية؟

هل يمكن للمعارضة التي كانت معارضة واصبحت الشريك الاكبر في السلطة، الا تتوهم امكان او جدوى الالغاء، الذي يمكن ان يضعها على طريق ان تلغي ذاتها بذاتها طالما ان حزمة الاختلافات بين اطرافها ليست قليلة؟

وهل يمكن للمعارضة - الموالاة ان تتواضع لتكون على يقين بأن الموالاة - المعارضة الضعيفة المرهقة القاصرة والمقصرة والحاملة لتاريخ باهظ من الاخطاء والالتباسات، اذا ما ألغيت، فإن ذلك يرشحها لأن تكون معارضة مؤذية بفعل عوامل داخلها لا تمنع ان تحولها اداة للخارج كما كانت قبل المتحولات الاخيرة؟ وبذلك يعود لبنان منصة مثالية للتخاطب بين اصحاب المصالح الاقليمية والدولية على حساب مصالحه ومصالح من تتصل مصالحه بمصالحهم. اذاً تعود دورة الشقاق والانشقاق الى حالها ويتعطل النهوض وتزداد احتمالات الارتهان والاستلحاق... فهل بامكان المعارضة – الموالاة ان تفكر بعمق اكثر، بأن اللقاء على السلب ضد أحد لا يكفي زاداً للاتفاق والاستمرار عليه؟ وان الباطل يسهل وصفه، بخاصة اذا ما كان بيناً وفاقعاً ولمدة ثلاثين سنة، كما يمكن اسقاطه، احياناً، ولكن بصعوبة او بسهولة نسبية، ويبقى قائماً خطر ان تؤول الجهود غير المدروسة لاسقاطه، الى تثبيته في شكل اقوى وزيادة الرغبة في مفاقمته او زيادة نسبته... غير ان وصف الحق أشد صعوبة، وأصعب منه إحقاق الحق، بخاصة اذا كان هذا الحق مختلفاً عليه في العمق، او قابلاً للاختلاف عليه. ومعلوم ان احتمال الاختلاف على الحق والباطل مفتوح على مصراعيه، وهذا يدعونا الى الكف عن المبالغة والمراهنات المطلقة في لبنان وفي غيره، من قبل الدولة والسلطة والاحزاب والطوائف والموالاة والمعارضة جميعاً.

وعوداً على بدء، هل في امكان الموالاة – المعارضة في لبنان، ان تكف عن اعتبار نفسها مشروعاً مستقبلياً محتملاً؟ واعتماداً على ماذا؟ أعلى قصورها الذاتي وتقصيرها، ام على اعادة اخطاء غطائها ومصدرها الاقليمي الذي اصبح مستقبله أشد اشكالية وتعقيداً؟

ان الموالاة - المعارضة اللبنانية، الآيلة الى شتات واسع كما يظهر من حالها الآن، والتي لم يعد باقياً من عوامل تماسكها سوى حجر الزاوية المهزوز في الدولة، وبعض المكاسب الآيلة الى زوال في المستوى المحرم منها، هذه المعارضة ما هي سوى مشروع ماضوي كان مكشوفاً منذ اللحظة الاولى، وبات اكثر انكشافاً في اللحظة الثانية، لحظة التمديد، ومن اليوم الاول، ومن طريقة تنفيذ الاصلاح الاداري الاعمى في اولى سنوات العهد وفي وجه المشروع الحريري عام 1999، كان هذا المشروع حافلاً وجهه وعقله وخطابه بعوارض الشيخوخة المبكرة، وتعتريه من آن لآخر مظاهر فقدان ذاكرته الضعيفة، والميل الى التنصل اللفظي الاحتيالي والقاء المسؤولية عن الاعطاب على الآخرين... وعلى الرئيس الشهيد رفيق الحريري اولاً وأخيراً.

هل في امكان الموالاة – المعارضة والمعارضة – الموالاة اللبنانية، ان تلتقي كل منهما على ما يتعدى ما تراه من سلب في الآخر؟ أي ان تلتقيا على ايجابيات ذاتية وموضوعية؟ ولا ننسى هنا ان الموالاة – المعارضة على ضعفها، تبدو للمراقب وكأنها مجموعات من العشوائيات والمكابرات والمعاندات والتسويغات والتسويفات القليلة الجدوى او الكثيرة الضرر، والاجدى للموالاة – المعارضة، أي ما تبقى منها بعد الاغتيال والانتخابات والخروج السوري والاعتقالات الامنية لكبارها من الامنيين، ومن دون استباق قضائي لسنا من محسنيه، ان يذهب كل فرع من فروعها التي انضمت اليها ولم تتفرع عنها، ليتحول مفردة وطنية تأخذ دورها في المستقبل بمقدار ما تملك من اهلية بالاعتراف من جهة والحوار من جهة أخرى، لتستطيع ان تثبت براءتها او تفعل توبتها من الارتكاب والقصور والتقصير... وحينئذ يصبح في امكان المعارضة ما يجب عليها من عودة الى حقيقتها التعددية حتى تضع نصابها الوطني من دون اوهام في الوحدة التامة الناجزة، والتي يجعلها وهم من هذا النوع عرضة لتشققات شديدة الاخطار.

هذا بدل ان يبقى الطرفان على غير منسوب معقول من التكافؤ، وكأنهما جبهتان، وهما في الواقع بقايا جبهة تجمعت عشوائياً، فكانت شبيهة بالجبهة اكثر مما هي جبهة، وفي المقابل مشروع جبهة تحولها المجاملات والالتباسات والمراوغات الى جبهات متناحرة، او متكونة على عامل منفرد هو ذاكرة الاستيعاد والاستثناء، الذي تكلل باستبعاد القطب الجامع الرئيس الحريري من الحياة.

ان تحقيق الشراكة الديموقراطية لا يتم بالجبهات المتقابلة، والتقابل غير الاختلاف، والتفاعل المضمر يعيدنا الى اسلوب المكايدة العاطل المعطل... ونعود لنبحث عن شهيد كبير ليجمعنا مرة اخرى! علماً بأن الفتوات واهل النفاق والاستعراض سيسقطون من أي جبهة متماسكة، وحدهم... عندما تتحول جبهة لبنان والمستقبل الى مكان سياسي واضح المعالم ومرن يستوعب المختلفين من اجل ما يجب ويمكن الاتفاق عليه.

مصادر
الحياة (المملكة المتحدة)