علي حماده (النهار)

من الصعب، لا بل من المستحيل المرور بالمقابر الجماعية المكتشفة في محيط المقر السابق للاستخبارات السورية في لبنان مرور الكرام. وكما ان من السابق لاوانه اتهام وجهة محددة بالمسؤولية عن هذه المقابر، وغير مقبول الاكتفاء بـ"بروباغاندا" نظام البعث السوري الذي يعيد المسألة الى حقبة ما قبل تسلم القوات السورية ومخابراتها موقع عنجر ومحيطه، مكررة المعزوفة نفسها، ان سوريا دخلت لبنان لايقاف الحرب الاهلية وايقاف المجازر التي كان اللبنانيون يرتكبونها بعضهم في حق بعض. وللامانة ان المساهمة السورية في اطفاء الحرب اللبنانية (كانت سوريا احد ينابيعها في حرب السنتين) قابلتها "غنيمة" فرض وصاية وسيطرة كاملتين على البلاد، كانت اشبه بالاحتلال المشفوع بوكالة دولية ثمنا لاصطفاف النظام السوري بجانب الاميركيين في حرب تحرير الكويت ضد عراق صدام حسين.

لم يأت خيار النظام السوري إطفاء الحرب لدواع اخوية، قومية او محض اخلاقية، وعليه الاعتراف بانه كان له ثمن، وقد دفع لبنان واللبنانيون الثمن اكثر من خمس عشرة سنة. مع ذلك نقول اننا لا ننكر المساهمة السورية في اطفاء نار الحرب مطلع التسعينات، لكننا نضيف ان النظام السوري افاد ايما افادة من سيطرته على لبنان طوال هذه المدة. فالى التحصين الاستراتيجي للنظام الساعي ابدا الى التمدد خارج حدوده، تدعم الموقف السوري في لعبة ربط النزاع مع اسرائيل بواسطة الجنوب اللبناني، وبات للنظام متنفس استراتيجي، سياسي، واقتصادي، ومافيوي مهم عبر البوابة اللبنانية، فهل ننسى الحالة المافيوية السورية – اللبنانية التي عششت في رحم الحياة اللبنانية بكل اوجهها: من ادارة الدولة في ادنى تفاصيلها، الى منع التلاقي بين اللبنانيين بالقوة والترهيب، فالولوج الى كل صنوف ممارسة الخوة في كل الحقول المصرفية (بنك المدينة مثالا)، والعقارية، والانشائية (سوليدير، اشغال عامة، كهرباء، هاتف خليوي)، وصفقات المحروقات، ناهيك بملفات تعد بالمئات متصلة بقضايا مالية وجزائية كانت معروضة امام القضاء المستتبع آنذاك؟

وبالعودة الى المقابر الجماعية التي يبدو انها قضية آيلة الى التوسع مع اكتشاف مزيد من المقابر تباعا، سيكون الموقف الطبيعي للحكومة اللبنانية ادراجها في جدول اعمال جلستها المقبلة، وتناولها مع جوانبها الجنائية، والقانونية، والامنية. وهنا نتمنى على القوى التي لا تزال ترى في النظام السوري "حليفاً" وتصوره مجرد "حمل وديع" ان تنظر الى المسألة بموضوعية، فلا تدرج القضية في اطار "حرب الاستعمار الاميركي — الاسرائيلي" ضد سوريا "قلب العروبة". كما نود ان يتبنى مجلس الوزراء قضية المعتقلين اللبنانيين في السجون السورية مرة جديدة، وحبذا لو يقوم الاخوة في "حزب الله" بمسعى حميد في هذا المجال مواز لمساعيهم الجهادية لاسترداد المعتقلين في السجون الاسرائيلية، ويستردون من النظام السوري المعتقلين اللبنانيين في سجونه.

مؤسف أن يكون "الارث" الذي يتركه لنا النظام السوري في لبنان بعد ثلاثين عاما من الوجود منها خمس عشرة سنة من السيطرة الكاملة، ارثا ثقيلا جدا لانه ممزوج بالدماء والدموع والآلام. والحق ان العلاقات بين البلدين لن تصطلح حقيقة الا بمراجعة ثنائية لبنانية – سورية. مراجعة يكون اساسها قول الحقائق والاعتراف بالاخطاء الانسانية بتفاصيلها والاعتذار للشعبين اللبناني والسوري على حد سواء على ما اقترفته ايدي ذلك النظام. والامر لا يتحقق بتهريب بضع كلمات في خطاب من ثلاثين صفحة تفيد بأن سوريا ارتكبت اخطاء في لبنان (خطاب بشار الاسد في 5 آذار 2005) فقط في المقابل سيكون اللبنانيون وعلى رأسهم المسؤولون مدعوين الى الاعتراف بالاخطاء وقول الحقيقة واذا لزم الامر الاعتذار من شعبهم في لبنان ومن الشعب في سوريا لأن المشكلة هي مع النظام والنظام ليس الشعب.