البيان ، صبحي غندور

هناك تطور مهم يحدث الآن في الحياة السياسية الأميركية، وهناك تزايد في نسبة عودة «الوعي السياسي» لدى الأميركيين بعد ضربات 11 سبتمبر 2001 الّتي أفقدت الكثير من المعتدلين و«المستقلّين» الأميركيين اعتدالهم واستقلالهم السياسي الحزبي.

يكفي أن نتذكّر أنَّ الرئيس الأميركي وصل للحكم بقرار من المحكمة الدستوريّة الأميركية العليا بعد مشكلة فرز الأصوات في ولاية فلوريدا. لكن أحداث سبتمبر 2001 رفعت فوراً نسبة تأييد الأميركيين لرئيسهم لمستوى 83، ثمّ فاز بوش بولاية ثانية في انتخابات العام 2004 رغم مرارة السنوات الأربع الأولى.

فغالبيّة الأميركيين، وبسبب صدمة الأعمال الإرهابيّة في نيويورك وواشنطن، كانت كالشخص الّذي فقد وعيه حصيلة ضربة موجعة بالرأس، وهو الآن بصدد استعادة وعيه، رغم آثار الصدمة وجراحها الّتي لم تندمل بعد. بل يمكن اعتبار العام 2005، عام عودة الوعي السياسي في أميركا، وعام عودة الحياة الحزبيّة الأميركية لفاعليتها الّتي تعطّلت في السنوات الأربع الماضية.

وتؤكد استطلاعات الرأي العام الأميركي أنَّ نسبة المؤيّدين لإدارة بوش الآن لا تتجاوز ثلث الشعب الأميركي، وهذه النّسبة الضعيفة لا تعود فقط إلى موضوع الحرب على العراق بل لمزيج من الأسباب الداخليّة الّتي اشتركت فيها قضايا الاقتصاد مع الإهمال الرّسمي في التعامل مع أعاصير الطبيعة، وجملة من الفضائح الّتي قام بها عدد من أركان الحزب الجمهوري.

لكن المسألة العراقية، بلا شك، لعبت وتلعب دوراً مهماً في إحياء الوعي السياسي الأميركي. فالحرب على العراق تلخّص الآن عناوين المشاعر السلبية كلها لدى معظم الأميركيين تجاه إدارتهم الحاكمة. فالوضع الاقتصادي يراه الأميركيّون الآن من خلال حجم المليارات الّتي تصرفها الإدارة على الحرب في العراق عوضاً عن استخدامها في العجلة الاقتصادية الأميركية والقضايا الاجتماعية المهمة.

والوضع الأمني يراه الأميركيّون من خلال النتائج السلبية اليومية لهذه الحرب، وسقوط آلاف القتلى والجرحى الأميركيين دون مبرر مقنع لهم بعدما سقطت كل الأعذار الّتي أعطيت للحرب حين حدوثها. كذلك فقدان الثقة بالإدارة وأركانها ارتبط بما جرى الكشف عنه من تضليل سياسي ومعلوماتي حصل عشيّة الحرب لأعضاء الكونغرس والأميركيين عموماً.

حتّى الخوف من الإرهاب تحوّل بنظر معظم الأميركيين من مبرر لدعم حكومتهم إلى سبب للتساؤل عن سياسة هذه الإدارة في الشؤون الخارجيّة، ومن ضمنها الحرب في العراق، والّتي أدّت إلى تزايد المشاعر السلبيّة في العالم ضدّ الولايات المتحدة، حتّى في مجتمعات الدول الحليفة تقليدياً لأميركا كدول أوروبا الغربية.

وتحاول إدارة بوش الآن توظيف الحدث السياسي المهم في العراق، أي الانتخابات التشريعيّة، لصالح مقولتها بأنَّ الأمور في العراق تسير لصالح الاستراتيجية الّتي أعلنت عنها مؤخّراً، لكن يبقى ذلك موضع شك كبير لدى الرأي العام الأميركي الّذي كان قد بنى آمالاً كبيرة في السنتين الماضيتين على أحداث سياسية مشابهة في العراق ( تسليم السلطة للعراقيين، اعتقال صدام حسين، الانتخابات في مطلع العام 2005، ثمَّ أخيراً الاستفتاء على الدستور) ليجد بعد كل حدث منها ازدياداً في تدهور الأمور الأمنيّة وارتفاعاً بحجم الخسائر الأميركية بشريّاً ومادّياً.

إن المسألة العراقيّة ستبقى القضيّة الأبرز الآن لدى الأميركيين في حياتهم السياسية والحزبية، ولسوف تزداد زخماً في الأشهر القليلة المقبلة تمهيداً لانتخابات كل أعضاء مجلس النواب وثلث عدد أعضاء مجلس الشيوخ في شهر نوفمبر 2006، لكن هذه الحيويّة في الحياة السياسية الأميركية لم تصل بعد إلى حد إدراك مكامن المشكلة الراهنة في السياسة الأميركية تجاه العراق.

فما أعلنه البيت الأبيض الأميركي من «استراتيجية النصر» كان من حيث الإطار العام يقوم على منهاج عمل منطقي يرفض الانسحاب الشامل من العراق قبل توفير البديل الأمني العراقي القادر على القيام بالمسؤوليات الأمنية كلّها، كما هو الحال أيضاً في الإشارة لأهميّة البناء السياسي للدولة العراقية ولإعادة إعمار البنى التحتيّة للحياة الاقتصادية والاجتماعية في العراق.

لكن أزمة هذه الاستراتيجيّة للإدارة الأميركية أنّها تقوم على الأسس نفسها الّتي حصلت فيها الحرب، أي عدم مشروعيّة الحرب وعدم الاستناد إلى الشرعيّة الدوليّة في معالجة تداعياتها الخطيرة على العراق والمنطقة والعالم ككل.

فلقد أشار الرئيس الأميركي في خطابه الأخير يوم 7 ديسمبر إلى الأمم المتحدة فقط عندما كان يتحدّث عن إعادة إعمار العراق، أي كمن ينظر إلى الأمم المتّحدة كجمعيّة خيريّة إنسانيّة وليس كمرجعيّة دوليّة مطلوبة الآن للإشراف الفعلي على كل أوضاع العراق الأمنيّة والسياسية والاقتصادية ولفترة زمنيّة محدودة يتمّ خلالها إعادة بناء الدولة العراقية وجيشها وسلطتها المنتخبة، كما جرى في بلدان أخرى بالعالم مثل كوسوفو وكمبوديا وغيرهما.

وما زالت سياسة التهويل والتخويف قائمة في الخطاب الرّسمي الأميركي حيث كرّر الرئيس بوش في خطاب له يوم 9 ديسمبر: «أفضّل أن أهزمهم هناك (في العراق) على أن أواجههم هنا في أميركا». وهي محاولة متكرّرة لإقناع الأميركيين أنَّ الحرب على العراق كانت لمنع حدوث هجمات إرهابيّة أخرى في أميركا.

لكن هذه المقولة بدأت تضعف أمام منطق المعارضين للحرب في أميركا والّذي يقول إنَّ الحرب زادت من شعلة الإرهاب في العالم ومن المشاعر السلبيّة ضدّ الأميركيين وإنه لم تكن هناك أصلاً علاقة للعراق بأحداث الإرهاب في نيويورك وواشنطن، بينما بقي من خطّطوا لهذه الأحداث بعيدين عن المنال الأميركي.

الإدارة الأميركية ستؤكد في الفترة المقبلة على مقولتها بأنَّ الحرب في العراق هي جزء من الحرب على الإرهاب، وبأنَّ العراق الآن هو «الجبهة الأماميّة للحرب ضدّ الإرهابيين»، وسيكون الرد على هذه المقولة من المعارضين للحرب بأنَّ إدارة بوش أضعفت الحرب على الإرهاب بغزوها العراق وتحويله إلى مصدر للإرهاب.

سجال قائم وسيستمر في الحياة السياسية الأميركية طوال العام المقبل الّذي لن يشهد طبعاً نهاية للمأساة العراقية، ولا انسحاباً شاملاً للقوات الأميركية، ولا تراجعاً للإدارة الأميركية عن سياستها. لكن عسى أن تكون الانتخابات العراقية مدخلاً لبناء سياسي أفضل في المجتمع العراقي يساهم في الإسراع بتحرير العراق، وبأن تكون الانتخابات «النصفيّة» الأميركية المقبلة في نوفمبر بداية لنهاية حقبة «الكاوبويز - Cowboys» الجدد!