السفير ، جوزف سماحة

هل نملك حياة سياسية سليمة؟ هل قادتنا، كلهم، على مستوى الأزمة التي نمر بها؟ هل بقي مكان ما لحد أدنى من الأخلاق لدى الكثيرين من المتعاطين بالشأن العام؟ هل مَن يحاسب؟
سبب طرح هذه الأسئلة هو الرغبة العارمة التي تتملّك المرء وتدفعه إلى مراجعة الوقائع السياسية للأيام الأخيرة وبالضبط تلك الوقائع المرتبطة بما بعد انسحاب الوزراء الشيعة من جلسة حكومية. لقد أطلق الانسحاب نزاعاً عنيفاً وسجالاً قاسياً. شيدت نظريات خرافية حول الإجماع الوطني ومَن يخرقه ويشذ عنه ويؤذيه. استدعيت قوى إلى بيت الطاعة الذي بناه النزق على عجل. ارتفعت طوائف إلى شاهق المسؤولية وهبطت طوائف إلى درك العمالة. ارتسم خط جديد فاصل بين الوطني وغير الوطني. تزعزعت تحالفات. صدرت أصوات شاردة تلوم وتؤنب. عاش البلد اختناقاً. جرى التشهير بمن يريد حصر حق النقض بنفسه. انكشفت أوراق كثيرة في سياق الاختلاف حول نسبة التدويل التي يرتضيها كل طرف. اندفع البعض بكبرياء فارغة نحو عقد اجتماع وزاري كان القصد منه التأشير على المتغيبين ومراضاتهم في غيابهم تدليلاً على الحس الزائف بالمسؤولية الوطنية.
انتهت الأزمة المشار إليها نهاية غريبة. نهاية لم يتوقعها الذين اندفعوا نحو افتعالها فخورين بقصر النظر الذي يعانون منه.
يبقى أن هذه الأزمة تعبّر، على طريقتها، عن مأزق في علاقات لبنانيين مع ما يسمى <<المجتمع الدولي>>. ويمكن لنا أن نعيد البروز الواضح لهذا المأزق إلى عام ونيف أي إلى موعد افتتاح المرحلة المضطربة التي دخلناها.
على امتداد هذه المرحلة كان الحديث عن السياسات الدولية
حيال المنطقة ممنوعاً. ليس ممنوعاً تماماً ولكنه غير مستحب. ليس غير مستحب تماماً ولكنه مدعو إلى أن يكون ساذجاً فحسب. السياسات الدولية وفق المنطق الساعي إلى الهيمنة هي <<اهتمام دولي>>، <<رعاية>>، <<شرعية دولية>>، <<عودة الاهتمام بلبنان>>، إلخ... حلت هذه الترانيم، أو أريد لها أن تحل، محل <<المصالح>>، <<الهيمنة>>، <<الاستراتيجيات>>، <<التحالفات>>، <<نسبة القوى>>، إلخ...
كل محاولة للتفكير انطلاقاً من المصطلحات الأخيرة كانت تحظى بإشارة يد تطالبها بالصمت. وكل محاولة للفهم كانت، بالضرورة، <<لغة خشبية>>. وكل سعي إلى تحذير كان صادراً عن عقل مريض يرى المؤامرات في كل مكان. أكثر من ذلك تحولت الجهود لوضع الأزمة اللبنانية في إطارها الإقليمي والدولي إلى <<تغطية على النظام الأمني>>، و<<دفاع عن المافيا المخابراتية>>. و<<غض نظر عن الاستبداد الداخلي>>... تقضي الحقيقة القول إن بين جمهور 14 آذار من كان حديث العهد في اكتشاف دفء العلاقة مع السياسة الأميركية فذهب، ببساطة، نحو التمتع بالدفء متجاهلاً السياسة. وكان هناك من قام بعملية بهلوانية مؤداها أن انتفاضة الأرز وانتفاضة فلسطين صنوان وأنهما تفتتحان عهد العروبة الجديدة وتهددان ركائز الاستعمار والاستبداد. ولكن كان هناك جناح جدي يقول الأشياء بأسمائها: إن القرار الدولي مسؤول عن كثير مما يجري، وهذا جيد، وعلينا أن نستحسنه ونستزيده.
هذا الجناح الأخير يستحق الاحترام فعلاً ولو من موقع الاختلاف. فهو كان، ولا يزال، يوحي أنه يتعاطى بواقعية مع السياسة الأميركية في المنطقة، ولو أنه لا يخجل من ذلك ولو أنه لا يتردد في تحميلها من أمانيه أكثر مما تحتمل. يستطيع هذا الجناح، مثلاً، أن يقرأ ويفهم مقال كوندليسا رايس الأخير الذي يحاول إجمال السياسة الخارجية الأميركية وفيه أن <<الإنجاز اللبناني>> يحتل مركز الصدارة في ما صنعته واشنطن خلال السنة الماضية.
لقد كان هذا الاستطراد ضرورياً لأن الذين تغافلوا، أو تستروا، عن حقيقة السياسات الدولية، ودورها، وأهدافها، وأدواتها، هم الذين شرعوا يبدون، في الأيام الأخيرة، حماسة عالية... للتدويل!
إن التدويل، في عرفهم، مشروط بتجهيل المواطنين بالسياسة الدولية. ولقد ثبت، الآن، أن التجهيل ليس خطة ينفذها عارف وإنما هو، أيضاً، بعض ما يصيب مدعي المعرفة من جهل!
لقد ارتضى البعض أزمة وزارية اندلعت تحت عناوين ثلاثة: التمديد للجنة التحقيق الدولية، طلب إنشاء محكمة دولية، طلب توسيع عمل لجان التحقيق لتشمل كل الجرائم المرتكبة في لبنان منذ سنة. لم يكن ثمة مشكلة حول العنوان الأول. كان التوافق شبه منته حول الثاني. وكان في الإمكان التوصل إلى صيغة مشتركة حول الثالث. إلا أن هناك مَن فضّل الذهاب نحو الإشكال الوزاري معتبراً أن مجلس الأمن سينصره.
واللافت أن القرار رقم 1644 الذي أصدره مجلس الأمن، في ما وافق عليه، وفي ما اقترح له حلاً وسطاً، لم يكن بمستوى طموحات غلاة التدويليين. لقد أصدر مجلس الأمن قراراً يوفر تغطية لاحقة للموقف الذي اتخذه الوزراء الشيعة ويظهر أنه كان ممكناً تجنب ما حصل وتوفير تلك الحملة الهوجاء التي شنها مَن لن يقدروا على ابتلاع ألسنتهم.
ليس مجلس الأمن في خدمة <<حزب الله>> طبعاً. ولكن مجلس الأمن ليس في خدمة غيره من اللبنانيين أيضاً. والغريب أن ممثلي الأكثرية، وهم على صلة بالأوساط الدولية، وينسقون يومياً معها، ويكثرون من الرهانات عليها، لم يحسنوا قراءة الموقف، ولم يتبيّنوا السقف الذي لا يجوز لهم تجاوزه.
الدرس من ذلك أن هناك من يقبل أن يعمل لبنانيون لديه، ولكن شرط ذلك أن يختار هو الخدمة التي تناسبه، وألا يكون ملزماً بضبط خطواته على إيقاع المحليين وحساباتهم الصغيرة.
لقد بات ممكناً، الآن، الانصراف إلى ترميم الحكومة. أعطى مجلس الأمن الإذن بذلك!