د. يحيى العريضي

ما قاله الرئيس الأمريكي السيد جورج بوش في خطابه الذي ألقاه في الرابع عشر من الشهر الجاري كان كلاما خطيرا ومثيرا للقلق. فها هو رئيس الدولة العظمى في العالم بما تملكه من ثروات وتقنية وسلاح يقف ليقول انه اتخذ قرار الحرب على العراق في ضوء معلومات خاطئة ومضللة.

ظن البعض أن في ذلك اعترافا بالحقيقة التي زاغ عنها الرئيس الأمريكي ثلاث سنوات متواصلة. فبعد ثلاث سنوات من المكابرة بالباطل اقرّ الرئيس الأمريكي بالحقيقة التي تنكر لها بكل ما تحت تصرفه من إعلام وأجهزة ومجندين.

وهذا الإقرار هو ليس اعترافا، فالاعتراف له شروطه الأخلاقية والقضائية. فالحرب التي شنتها الإدارة الأمريكية على العراق، وما زالت قائمة، بحجج يقرّ الرئيس الأمريكي ببطلانها لم تبدأ في أواخر العام 2002 ومطلع العام 2003. فقد سبق الحرب حصارا اقتصاديا قاسيا فرضته الإدارة الأمريكية على العراق دام اكثر من اثنتي عشر سنة تسبب في فناء مئات آلاف من أبنائه جلهم من الشيوخ والأطفال والطبقات الفقيرة، وكان ذلك بسبب معلومات يقول عنها الرئيس الأمريكي اليوم إنها لم تكن صحيحة.

أما الحرب التي يتحدث عنها الرئيس بوش والتي ما زال العراقيون يدفعون ثمن تداعياتها فقد ذهب ضحيتها لحد الآن وحسب إقرار الرئيس بوش في خطابه ذاته اكثر من ثلاثين ألف من المدنيين والعزل من العراقيين الذين حصدتهم نيرانها دون أن يكون لهم نصيبا فيها. أما الإحصائيات الأمريكية الرسمية فتشير إلى وقوع 2100 قتيل من أفراد القوات المسلحة الأمريكية لغاية تاريخ الخطاب ، وما زال العدد يتصاعدا يوما بعد آخر.

والاعتراف بخطأ القرار الذي اتخذ في ضوء معلومات خاطئة يعني أولا، من الناحية الأخلاقية، الاعتذار لكل ذوي الضحايا الذين فقدوا أبنائهم وإخوانهم وأزواجهم وأصدقائهم في هذه المحرقة.

أما من الناحية المادية فالاعتراف يعني تعويض هؤلاء الضحايا على كل الأضرار المادية والمعنوية التي سببتها لهم هذه الحرب.

أما العراق، البلد الذي وقعت عليه الحرب واستباحت اقتصاده وحطمت بنيته التحتية ولوثت بيئته ورهنت موارده لعقود مقبلة، فلا يستطيع أحد أن يقدر حجم التعويضات التي يمكن أن تعيده جزئيا إلى واقع التوازن الذي فقده من جرائها وما سبقها من إجراءات تعسفية وقمعية.

إلا أن ما قاله الرئيس الأمريكي جورج بوش في خطابه هذا لا يمثل في حقيقته اعترافا في المعنى الفقهي للاعتراف. إن حقيقة ما قاله هو إقرارا بحقيقة لم يعد بإمكانه العمل على نكرانها ومحاولة طمسها رغم الجهد النادر الذي بذله فريق متخصص بالتزوير والتعتيم ترغيبا وترهيبا، الا ان كل تلك الجهود الشيطانية لم تفلح؛ حيث كان أول غيث الاعتراف والاقرار قد اتى على لسان كولن باول وزير خارجية غزو العراق اذ لم بعد ذلك الرجل قادرا على حمل ذلك الاثم الرهيب فاعترف واقر بالاكاذيب. ان إقرار الرئيس بوش هو اقرار المتهم الذي تزعزعه الأدلة فيعترف بالحقيقة اعترافا باهتا مغلفا بشتى أنواع التبريرات. أن اعتراف الرئيس الأمريكي هذا يستند على نظرية لم يسبقه إليها أحد في التاريخ. إنها نظرية اتخاذ قرارات صحيحة في ضوء قرارات خاطئة وهذه النظرية التي بشر بها الرئيس بوش كانت محورا مهزوزا لهذا الخطاب.

لايد وان الفلاسفة واصحاب نظريات الفكر والسياسة والاخلاق والحق والواجب والفضيلة ان يعترفوا بهذه المساهمة الجبارة للرئيس جورج دبليو بوش في انضاج افكارهم ونظرياتهم.

حقيقة، لايقوم السيد بوش بانضاج افكارهم ونظرياتهم فقط بل انه يقلبها رأسا على عقب، فمن يتحدث عن بناء (قرار صحيح) على (معلومات خاطئة) لانتاج سياسات صحيحة يقدم فعليا نظرية جديدة في المنطق اقل ما يال فيها هو انها تخالف المنطق ... أي منطق ، وتفسر لنا لماذا يريد السيد بوش لعالمنا أن يمشي على رأسه.

الخطورة الكبيرة التي تكمن في مبدأ بوش هذا وفلسفته هي أن الحرب التي يتحدث عنها الرئيس الأمريكي لا تزال قائمة ، وقرارها الخاطئ لم يصحح ولم يتوقف بعد. ثم ماذا عن القرارات القادمة التي سيتخذها رئيس الدولة التي تتحكم بمستقبل العالم وتقرر مصير الشعوب؟ الجواب عند الشعوب فقط............

ثثالشعوب وحدها هي القادرة، بكفاحها وصبرها وتمسكها بوحدتها وقيمها، على تصحيح قراراته الخاطئة، والمستقبل كما يقال أبدا للشعوب.