الشرق الأوسط ، بلال الحسن

كثيرا ما تفرض الأحداث المثيرة نفسها علينا، فننسى الالتفات الى ما يحيط بنا من مواقف وتطورات مهمة. إن حدثا من نوع اغتيال الصحافي والنائب اللبناني جبران تويني، يطغى بمأساويته على تحركات استراتيجية تقودها دول عظمى، ولا بد من أن تبقى العيون مفتوحة لتتبع كل ما يجري، لأن ما يجري حولنا حساس وخطير. وسنحاول ان نرصد هنا بعض الذي يجري.
مثلا.. كيف تنظر اسرائيل الى نفسها وإلى وضعها في ظل الانشغالات العربية القائمة؟

يجيب عن هذا السؤال الجنرال اهارون زئيف رئيس جهاز الاستخبارات العسكرية (أمان)، وذلك في «النشرة الاستراتيجية» الصادرة عن جامعة تل ابيب، يقول: ان اسرائيل تعيش في بيئة استراتيجية مريحة، سببها الاساسي غلبة التوجهات السياسية القطرية على التوجهات القومية في العالم العربي، وبسبب الوجود الاميركي المكثف في العراق، وبسبب الاصرار الاميركي على بقاء هذه القوات حتى يتم انجاز مشروع التغيير الاميركي الكبير في المنطقة. (مشروع الشرق الأوسط الكبير).

يناقش المسؤول الاسرائيلي وضع الحركات الجهادية الاسلامية، ويرى ان هذه الحركات تعيش حالة تراجع بسبب انضمام العديد من الدول العربية الى حملات مقاومتها. ولكنه يلاحظ ان بعض هذه الحركات، ومنها «القاعدة» بدأت تركز على استهداف الانظمة العربية، وان اسرائيل لا تقع حتى الآن في بؤرة اهتمام هذه الحركات.

يركز المسؤول الاسرائيلي اهتمامه على ايران، فيدعو الى اتخاذ سلسلة من الاجراءات الاستخبارية والعسكرية والسياسية، من اجل مواجهة ناجعة لما يسميه الخطر الايراني الكامن في استكمال مشروع القنبلة النووية.

ثم يركز اخيرا على ثلاث قضايا: استغلال التغيير المتنامي في لبنان لصالح اسرائيل، الحرص على استمرار السلام مع النظام الاردني ويصفه بأنه سلام استراتيجي. والمراقبة الحذرة لنمو تطور الصواريخ بين ايدي الفلسطينيين، خوفا من ان تتحول صواريخ «القسام» البدائية الى صواريخ شهاب 3 الايرانية.

ومن الاحداث التي تجري حولنا دون ان تحظى باهتمام يذكر في اجهزة الاعلام، كثرة المؤتمرات الغربية (الغربية وليس العربية) التي تنعقد من اجل ما يسمى بـ«أمن الخليج». وقد تم اخيرا عقد عدة مؤتمرات تبحث في الموضوع نفسه، منها مؤتمر حلف الاطلسي (الناتو) الذي انعقد في قطر، ومؤتمر البحرين الذي انعقد بالتعاون مع «مركز الدراسات الاستراتيجية في لندن»، اضافة الى مؤتمر انعقد في بريطانيا وآخر في برلين.

اغلب هذه المؤتمرات تنعقد في دول الخليج، يعد لها وينظمها ويقدم ابحاثها هيئات بحثية غربية، ويقتصر الدور الخليجي فيها على الاستضافة. وهي تبحث في مواضيع شتى، منها كما يقول الدكتور عبد الله خليفة الشايجي، غياب وعجز دول المنطقة عن الوصول الى نظام توازن قوى اقليمي، وعدم قدرة دول مجلس التعاون الخليجي على تشكيل قوة ردع موحدة، مما يؤدي في النهاية الى عجز دول مجلس التعاون الخليجي عن حماية امنها القومي. ويتركز البحث في هذه المؤتمرات ايضا على مأزق الوضع في العراق، والمواجهة مع ايران، واستمرار ظاهرة الارهاب. والنتيجة الاساسية لمثل هذا النوع من الابحاث هي ان المنطقة تحتاج الى قوى خارجية لتحفظ لها امنها، كما ان اوضاعها تفرض بقاء الوجود الاميركي في العراق وفي مياه الخليج.

وجنبا الى جنب مع هذه المؤتمرات، تأتي الانباء من واشنطن عن اقدام وزارة الدفاع الاميركية (البنتاغون) على رصد مبلغ 300 مليون دولار للقيام بعملية واسعة ومنظمة من اجل «دس مواد اخبارية مؤيدة للولايات المتحدة في وسائل الاعلام العربية، من دون الاشارة الى الحكومة الاميركية كمصدر لها».

وتأتي هذه الحملة ضمن ما يسمى الحرب النفسية لإقناع الشعوب بالسياسات الأميركية، ويشرف على هذه العملية هيئة تسمى «القيادة الأميركية للعمليات الخاصة»، وهي تستهدف مواقع الانترنت والبث الاذاعي والتلفزيوني، بالاضافة الى الوسائل الترفيهية مثل الشعارات على الملابس والملصقات على السيارات، حسب ما يقول الكاتب الاميركي مات كلي، وهو ينقل عن مايك فورلونغ نائب مدير «عنصر العمليات السيكولوجية المشتركة»، ان الجيش الاميركي لن يكشف دوره دائما في توزيع الاخبار والمواد الاعلامية المؤيدة للولايات المتحدة، ولكنه سيرد بصدق اذا سأل الصحافيون عن المصدر. ولا يمكن وصف هذا النوع من العمل، الا بأنه نوع من الخداع للمواطن العادي، يكمل عملية الخداع التي تمارس في المؤتمرات البحثية من اجل الترويج للسياسات الاميركية الاستراتيجية.

ان ما يتوجه الجيش الاميركي لفعله اعلاميا هو مجرد تطبيق لسياسة اعلامية رسمية وضعت خطوطها اعلى المستويات في الادارة الاميركية، وانشأت من اجلها هيئات متخصصة، وهي تعمل في اتجاهات عدة، ولا تتورع عن القول بأنها رصدت اموالا للتأثير على اجهزة الاعلام، وعلى النقابات، وعلى لجان المجتمع المدني، وهي سياسة وصفها بعض الكتاب العرب بأنها اكبر عملية شراء علنية للذمم.

ولا يخلو الامر بالطبع من باحثين عرب، يشاركون في مثل هذه المؤتمرات، ويقولون بوضوح ان المشكلة لا تكمن في الدعاية، ولا تكمن في الاعلام، انما هي تكمن في السياسة الاميركية التي يرفضها المواطن العربي، ويرى انها تستهدف ثقافته وقيمه واستقلاله، ولكن الادارة الاميركية بعيدة كل البعد عن الالتفات لمثل هذه الآراء، وهي لا تتورع عن الاعتقاد بأن الشعوب في العالم جاهلة، ويمكن بشيء من المال، وبشيء من الدعاية، تغيير مواقفها بحيث تصبح مؤيدة لسياسات الولايات المتحدة الاميركية.

وما تكشفه هذه النشاطات، والتي لا تحظى باهتمام مركز في أجهزة الاعلام العربية، ان المنطقة العربية كلها مستهدفة بالمشروع الاميركي، وهو مشروع يتطلع في النهاية الى السيطرة المباشرة (وليس النفوذ فقط) على المنطقة العربية، واستخدام المنطقة العربية كأداة فعالة في محاصرة ايران واضعافها، مع توجه لتقوية اسرائيل واستخدامها في تنفيذ جزء من مخططاتها تجاه المنطقة كلها، وتجاه ايران.

وبسبب كثرة المعارك المحتدمة داخل المنطقة العربية وحولها، ترى دول عربية، وبخاصة الدول الصغيرة، ان من المناسب لها ان تنحاز الى الموقف الاميركي، وان ترتاح الى مظلته الامنية لتحميها من المخاطر المحيطة. بينما ترى دول عربية اخرى، ان كثرة المشاكل تفرض عليها الالتزام بسياسة قطرية تركز فيها على معالجة مشاكلها الداخلية. وتعلن اسرائيل صراحة ان هذا الاهتمام القطري يريحها استراتيجيا. ولكن هذا النوع من السياسات يحتاج الى اعادة نظر، فالاهتمام بالافق القومي للسياسات العربية ليس ترفا، وليس تطلعا حالما، ولا يشكل رؤيا رومانسية، انه ضرورة حياتية لكل نظام عربي صغيرا كان ام كبيرا. ان التطلع القومي هو الوسيلة الفعالة لحماية الذات، ولحماية الانظمة نفسها. ويعرف كل من مارس السياسة انه لا يمكن حفظ الامن في اي بلد من داخله فقط، وان العمل في الميدان المحيط (او ما يسمونه المجال الحيوي) يكون احيانا اساسيا من اجل الامن الداخلي. ويشكل هذا المنهج الاداة الفعالة للوقوف في وجه المشروع الاميركي للشرق الأوسط الكبير، والذي هو في جوهره مشروع لفرض السيطرة الاميركية على جميع دول المنطقة، وانتزاع استقلالها وسيادتها. فحتى من اجل سياسة قطرية ناجحة لا بد من سياسة قومية ناجحة، والا فإن اسرائيل ستدق ابواب العواصم العربية طالبة نصيبها من التجارة، ونصيبها من المشاركة في الخطط الامنية على تخوم كل نظام عربي، وآنئذ ستختل المواقع القطرية اكثر بكثير مما هي عليه الآن.