النهار ، هيثم مناع

شاءت الأقدار أن تتواكب ثورة المعلومات والإعلام مع الثورة الصامتة للمنظمات غير الحكومية. ففي مدى خمسة عشر عاما، تفصل بين 1990 ويومنا، دخلت السبرانية حياة أكثر من مليار من البشر وربطت الفضائيات أكثر من نصف سكان الأرض بقنوات فوق الحدود والرقابة التقليدية وازداد عدد المنظمات التي تتمتع بالصفة الاستشارية في الأمم المتحدة ECOSOC أربعة أضعاف (من 800 إلى 2400 منظمة) وأصبحت كلمة الفضاء غير الحكومي الكابوس الأهم والأخطر لكل الديكتاتوريات المالية والسياسية.

كيف يمكن استقراء العلاقة بين مكونات هذا الفضاء، وبشكل خاص، ما يعرف بالسلطة الرابعة والسلطة المضادة. هل ستوظف الثورات العلمية في خدمة السائد أم ستعيش صراعا بين القوة والقيم؟ بين إقامة العدل وتحقيق المصالح المباشرة؟ هل يمكن الاعتماد على الأشكال الجديدة للضغط والتأثير لتجديد المفهوم التقليدي لتوزيع السلطات (الثلاث!) بحيث تنال المشاركة حظا أوفر وتتسع جبهة المقاومة لاحتكار السلطة والثروة على الصعيد العالمي؟

لقد سجلت بداية الألفية الثالثة مواجهة مفتوحة مع الإنجازات الكبرى التي حققتها البشرية في النصف الثاني من القرن العشرين. بدأت الحملة مع الفرملة المنهجية للقوة العظمى الأولى لكل ميثاق أو اتفاقية جديدة لحماية الإنسان والبيئة منذ سقوط جدار برلين، ثم مواجهتها المفتوحة مع المحكمة الجنائية الدولية الوليدة، وإن علقت الرسالة الإخبارية للجمعية الأميركية للقانون ASIL على هذا التوجه في آذار 1999 بالقول: "القانون الدولي اليوم أقل احتراما في مجتمعنا من أي وقت مضى". فما هو التعليق المناسب منذ إعلان الإدارة الأميركية عولمة حالة الطوارئ في تشرين الثاني 2001؟

لقد شكلت أحداث 11 ايلول 2001 معجّلاً فوضويا لهذا التوجه، حاولت معه الإدارة الأميركية المحافظة مصادرة أهم المكتسبات التي أصبحت تحول موضوعيا دون إعادة هيكلة الخريطة السياسية الدولية ضمن مبدأ الهيمنة وفقا لمعطيات نظام القطب الواحد.

"الحرب على الإرهاب" أصبحت المحرك، بل المبرر لمنهجة انتهاك حقوق الإنسان على الصعيد العالمي وبشكل خاص في كل مناطق البطن الرخو التي تعتبرها الإدارة الحالية الأرض الخصبة لأطروحة الفوضى البناءة. التعذيب يعود بقوة بعد انحسار. السجون الخارجة عن القانون تصبح من عاديات الأمور والسجون السرية تدخل القاموس الأوروبي - الأميركي من جديد. التحقيقات في غوانتانامو تتجاوز كل سجون الديكتاتوريات، أكثر من 28 ألف عملية استجواب لأقل من ألف شخص في قرابة أربعين أسبوعا. المعاملة القاسية والمهينة تتسبب في أكثر من 35 محاولة انتحار، ولتغطية كل هذه الجرائم، تم تشكيل فرق عمليات خاصة للمعلومات مهمتها التضليل الإعلامي وإعادة إنتاج مدرسة غوبلز في التأثير بالرأي العام.

لكن أليس للفقه حكمته عندما يقول "لا يوجد شر مطلق"؟ ألم تتسبب هذه الانتهاكات الجسيمة للحقوق والحريات في توسع الحركة المدنية العالمية للدفاع عنها؟ وإن كان من السهل، إلى حد ما، ضبط قيادة أركان السلطة التنفيذية على الصعيد العالمي، وتحجيم التحرك الدولي المشترك لسلطات تشريعية غير منسجمة في التركيب والوظيفة والبرنامج، والخوض في معركة مفتوحة مع التعبيرات البنيوية للقانون الدولي عبر اتفاقات ثنائية تحد من سلطاتها، فإن مراكز ثقل المقاومة، وبعكس ما يظهر للعيان، ليست في أشكال العنف المختلفة هنا وهناك، بل في تعبيرات السلطة المضادة من الفضاءات غير الحكومية على الصعيد العالمي والسلطة الرابعة.

وبقدر ما يكون هناك من تناغم جدلي بين السلطة الرابعة والسلطة المضادة، يمكن الحديث عن إعادة بناء عملية الوعي وأنسنتها على الصعيد العالمي في وجه ثلاثية الخوف والأمن والانصياع الطوعي التي ينتجها العنف والعنف المضاد. يمكن الإدارة الأميركية عولمة حالة الطوارئ، ولكن يصعب شراء ذمم كل من جعل همّه إقامة جسر مباشر بين الوضع البشري والوعي البشري، بين الحدث والناس.

لا يمكن الطلب إلى الصحافي التفرغ لانتهاكات حقوق الإنسان، كما أن مهمته لا تنحصر في رصد أوضاع الحريات. لكن هناك تقاطعات أساسية بين الصحافي والحقوقي تبلورت مع الأيام وصارت جزءا من وعي الصحافي لدوره الإنساني ووعي الحقوقي لواجبه في بناء جسور حقيقية بين المجتمعات المدنية والسلطة الرابعة:

أول هذه التقاطعات، الحياد الإيجابي أو الملتزم،

ثانيها، القدرة على التحليل في الحدث أو ما سماه ميشيل سورا (السوسيولوجيا الساخنة)

الثالث، القدرة على رفض مبدأ الممنوعات باعتباره يمس مباشرة الحق في المعرفة وفي استعمالها،

الرابع، الصدقية عندهما ابنة الصدق مع الذات والآخر والإحساس العميق بالتطوع،

وأخيرا وليس آخرا، كلاهما شاهد على العصر ومؤرخ فوق العادة للمشكلات اليومية للناس.

بقدر ما تكون صورة المدافع عن حقوق الإنسان أو الصحافي منسجمة مع هذه المقومات المشتركة، بقدر ما يكون هناك انسجام مع الاختيار الذي حدده كل منهما لنفسه، باعتباره طرفاً فاعلاً ومؤثراً في الرأي العام بدرجة أو بأخرى. ولا يعني هذا التصور الجميل بحال، أن عالم الصحافة وحقوق الإنسان خالٍ من حوانيت البيع والشراء والمتاجرة العلنية وغير العلنية، المباشرة وغير المباشرة. إلا أن مجرد تحوّل الإنسان أو الصحيفة أو المنظمة الى عنصر تأثير، يجعل منه بالضرورة موضوعا للتوظيف أو الاحتواء.

لكن الإنسان الصحافي، بالمعنى النبيل للكلمة، شريك أساسي في عملية بناء الوعي لا تدنيسه، وبالتالي نرى فيه الكائن القادر على الجمع بين الجدية والبساطة، والعلاقة الطبيعية بالناس في غياب الفرقعة المشهدية، والفعل المتميز غير المفتعل أو المسطح، وخوض المغامرة المعرفية دون حدود، والتواصل المباشر مع الناس دون وسائط أو قيود والجمع بين مرتكزات الثقافة والقدرة المستمرة على الفعل الإبداعي، والقلق الدائم للجمع بين الموضوعية والشفافية والأمانة من جهة وروح المتابعة والبحث والاكتشاف المتجدد من جهة ثانية، والإصرار على قواعد مهنية صارمة وروح تضيف الى المرونة مسؤولية شرف المهنة. وهل من حليف للمناضل من أجل حقوق الإنسان والعمل الإنساني أكثر فاعلية وتكاملا من هذا الكائن الضروري للعمل والإبداع الحقوقيين؟

لا يمكن التواصل مع المجتمع باختزال قراءة الوجود البشري في المواثيق والإعلانات الحريصة على الكرامة الإنسانية. كذلك، لا تشكل هذه المواثيق موضوع إجماع شعبي عالمي. فما زال النقاش قائما، بعد ربع قرن من الزمن مثلا، حول "اتفاقية القضاء على أشكال التمييز ضد المرأة" وانسجامها مع القيم والمعتقدات المحلية هنا أو هناك. وبالتالي ثمة رسالة مشتركة للصحافي والحقوقي تقوم على التعاون من أجل خلق ديناميات مشتركة للفعل الذهني عند الأشخاص والجماعات دون خوف ودون أحكام مسبقة.

إن القدرة اليومية على تفعيل الحوار المجتمعي في قضايا تهم المصير الإنساني برمته، هي الرسالة التي يتقاسمها الصحافي والحقوقي ترجمةً وصياغةً وقدرةً على التواصل بين مالكي أداة الفعل الإعلامي والقادرين على صنع الحدث الإعلامي. أثناء تغطية أحداث زلزال باكستان وكشمير، نجح أكثر من صحافي في فتح ملف الحرب على الإرهاب ونتائجها الكارثية على العمل الإنساني والخيري في البلدان الإسلامية. كنا في "المكتب الدولي للجمعيات الإنسانية والخيرية" نناضل من أجل توجيه الأنظار الى هذه المعضلة قبل وقوعها، وقد استعرضت "الجزيرة" في أكثر من برنامج الوجود المهدد للجمعيات الإنسانية في العالم الإسلامي، ليأتي التكامل بين الصحافي والعامل في الحقل الإنساني بأجمل صوره في حالة عيانية، حيث ظهرت للعيان النتائج الكارثية لما يعرف بالحرب على الإرهاب على جانب أساسي من جوانب بناء المجتمعات المدنية في العالم الإسلامي ومحور مهم من محاور الاكتشاف اليومي للحقوق بالتعرف على المعاني العميقة لحق التضامن.

لكن، ومقابل هذه الصورة البناءة، ثمة صورة رمادية وأخرى أكثر سوادا يعكسها إعلام آخر بعيد عن شرف المهنة وقيمها. فكما أن للسلطة التنفيذية جنوحاتها وأمراضها، السلطة الرابعة أيضا لها عللها ومشاكلها وتجاوزاتها. وعندما تكون موضوع توظيف، يمكن القول إن قاعدة "الغاية تبرر الوسيلة" تجعل منها واسطة رديئة في خدمة منظومات البؤس. وفي هذه الحالة، يشبه صحافي الخدمات قاضي التعليمات الذي يتخلى عن سلطته ليوظفها في خدمة سلطة أخرى مالية كانت أو سياسية. وليس بالإمكان دائما توضيح التخوم بوضوح بين الصحافة الناقدة والصحافة الانتقائية النقد، الصحافة المقاومة للاستبداد والصحافة التي تكتشف الخصائص المميزة والخلاقة لهذا المستبد أو ذاك.

في المنعطفات الكبيرة في تاريخ الشعوب، يطوف على السطح الطابع النسبي لمفهوم القانون، فالانحرافات الخطيرة التي تعيشها البشرية في مرحلة تسمح لقطاعات واسعة منها بوعي هذه الانحرافات وبربريتها، تخلق حالة انعدام ثقة بفكرة طاعة القانون. لغياب الثقة بالظروف المستوجبة والحالات الداعية إلى... بل وكل من شارك في الديباجة والتحرير والتصويت والتطبيل والتطبيق. في هذا الوضع الذي يمكن أن يكون تحت حالة حرب أو حالة حصار، يقف الصحافي والحقوقي على مسافة واحدة: كلاهما في الميدان، كلاهما على صلة مباشرة مع الوعي المباشر لمعنى القانون، كلاهما يلاحق آخر الخيط بين البناء المدني والعصيان المدني، وكلاهما يطرح السؤال على نفسه: متى يبرر بالقانون الخروج على القانون؟

فالصحافي الذي ينقل انتهاكا لحقوق الإنسان في ظل حالة طوارئ، ينشر صورا للتعذيب من مناطق ممنوعة، يكشف وجود سجون سرية، هذا الصحافي يتقمص دور الحقوقي باعتباره العنصر الأفضل للقيام بهذا الدور. لقد صدر عن منظمات عربية ودولية عدة تقارير عن التعذيب في العراق، إلا أننا كنا بحاجة لمجلة "النيويوركر" لتحّول الموضوع من مجرد تقارير محدودة الأثر والفعل إلى قضية أميركية وعالمية. هذه الصحيفة نفسها كانت قد أوفدت قبل أربعة عقود ونيف حنا أرندت لتغطية محاكمة آيخمان.

منظمات حقوق الإنسان كانت كلها بحاجة للسلطة الرابعة في اللحظات الصعبة. ألم يشعر الرئيس الأميركي بوش الابن بالحاجة نفسها ولكن للتدمير لا للبناء، عندما كانت قواته تكرر مجزرة حماة في الفلوجة ولم يكن بحاجة الى قناة "الجزيرة" لتلعب معه من جديد دور الشاهد على حروبه؟