د. يحيى العريضي

عندما شاعت فضائح تعذيب المعتقلين العراقيين على أيدي الجنود الأمريكيين في سجن " أبو غريب" في ضواحي بغداد وعمت صورها وأخبارها صحف وأجهزة الإعلام في كافة بقاع العالم، استنكرها الرأي العام الدولي وأدانتها كافة منظمات حقوق الإنسان ومنظمات الحقوق المدنية ، بما فيها المنظمات الأمريكية والأوربية. ولإدانة وحدها دون محاسبة المسؤولين عن تلك الفضائع لا تنتصر لأحد ولا ترد للضحايا اعتبارا ماديا أو معنويا على ما لحقهم من أذى ودمار.

وكان واضحا إن المسؤول عن تلك الجرائم المقرفة هي الإدارة الأمريكية، حيث تحدث رامسفيد وزير دفاع هذه الإدارة في حينها أمام اللجنة العسكرية بمجلس الشيوخ الأمريكي قائلا إن " الاسوء ما زال في الطريق" وعنى في ذلك إن ما تم كشفه للرأي العام في حينه من تلك الفضائح لم يكن إلا نزرا يسيرا من حقيقة ما كان يجري من انتهاكات مرعبة للمعتقلين العراقيين على أيدي القوات الأمريكية التي دخلت العراق " لنشر الديمقراطية وتعميم حقوق الإنسان" بين أبنائه.

إلا أن ضجة التساؤلات والاشمئزاز وعض الشفاه والتصريحات الثقيلة وغير الثقيلة لم تدم طويلا حول هذا الموضوع. وتم اختزاله باعتباره نزوة همجية من مجندة ساذجة وبعض زملائها، رغم إفادة المجندة ومن معها التي جاء فيها انهم كانوا ينفذون أوامر رؤسائهم التي كانت تحثهم باستمرار على تعريض معتقليهم إلى الإذلال الجسدي والمعنوي لإرهابهم والوصول بهم إلى حالة الانهيار.

ولان الضحايا هم عراقيون ينتمون إلى بلد عربي يبعد آلاف الأميال عن البنتاغون والبيت الأبيض ، ولان المجندة وزملائها أمريكيون يؤدون خدمة " وطنية " قتالية أمريكية على الطرف الآخر من الكرة الأرضية ويبذلون جهودا استثنائية بما يؤدوه في هذا المجال، قد كان تصرفهم هذا وفق رؤية المحاكم الأمريكية، حالة غير طبيعية يمكن إرجاعها إلى عدم توازن أخلاقي في سلوكهم الطبيعي المعتاد، ولهذا فقد كان القضاء الأمريكي متهاونا في طبيعة العقوبات التي أنزلها بحقهم، و في ذات الوقت أسدل الستار على ما وعدنا به السيد رامسفيد عن الاسوء الذي ضل " في الطرق " ولم يصلنا منه شيء لحد ألان.

ومع كل الوثاق المصورة والمتلفزة التي بثت ونشرت عن هذه القضية كانت الإدارة الأميركية تصر على فردية هذه الحوادث ولا تعزوها إلى حالة نظامية مبرمجة كجزء من سياسة قمعية بعيدة عن كل المفاهيم الديمقراطية والإنسانية التي تتبجح بها هذه الإدارة وتغزو العالم " لنشرها " بقوة السلاح والغازات السامة المحرمة. إلا أن ذلك الإصرار كان قد انهار كليا عندما صوت الكونغرس الأمريكي في الخامس عشر من الشهر الجاري على مشروع قرار يقضي بمنع الممارسات " القاسية " و"غير الإنسانية " من قبل الأجهزة الأمريكية على المعتقلين في السجون الأمريكية داخل وخارج الولايات المتحدة. وهذا يعني في ابسط معانيه بان تلك الممارسات المخزية قد كانت مستمرة ومتواصلة وعكس ذلك فليس هناك من دواع تفرض على المجالس التشريعية الأمريكية إصدار قانون بإيقافها وتحريمها.

إلا أن سلسلة الفضائح " الديمقراطية " لهذه الإدارة لم يتوقف عند هذا الحد ، ففي السادس عشر من الشهر الجاري أيضا نشرت صحيفة " النيو يورك تايمز " الأمريكية الأمر الذي أصدره الرئيس الأمريكي السيد جورج بوش في أعقاب أحداث 11/9/2001 والذي أباح بموجبه التجسس على مكالمات الأمريكيين وغير الأمريكيين الهاتفية، والاطلاع على مراسلاتهم الإلكترونية في استباحة صريحة لحقوقهم المدنية والشخصية دون ترخيص قانوني أو رادع أخلاقي في هذا المجال. واللافت في هذا الأمر إن الخروقات التي أباحت هذه الإدارة لنفسها أن تمارسها لم تتوقف خارج حدود الولايات المتحدة، ولم تقتصر على غير الأمريكي داخل الولايات المتحدة. فقد كان التجسس والتصنت والاطلاع على مراسلات الأجانب هيئات وأفراد قائمة على قدم وساق من قبل هذه الإدارة ، إنما امتدت هذه المرة إلى مواطنين أمريكيين يفترض حمايتهم بذات القانون الذي تعتدي به عليهم هذه الإدارة

لم يستطع الرئيس الأمريكي جورج دبليو بوش أمام قوة منطق الصحافة ووثائقها أن ينكر هذه الحقيقة، وبدلا من أن يقدم اعتذاره للمواطنين من أمريكيين وغير أمريكيين على التطفل غير المشروع على حرمة خصوصياتهم هاجم الرئيس بوش صحيفة " النيو يورك تايمز " واتهمها بتسريب معلومات يستفيد منها الأعداء. ومفهوم الأعداء هذا مفهوم خطير حيث شملت خانة الأعداء هذه المرة كل من لا ترتاح له هذه الإدارة أمريكيا كان أم غير أمريكيا.

هل ستترتب ردود فعل شعبية أمريكية على هذه الفضيحة تختلف في نوعيتها ومدلولاتها عن فضائح سلخ جلود العراقيين واستباحة أعراضهم في سجن " أبو غريب " وغيره من معتقلات القوات الأمريكية؟

كل هذا يحصل والرئيس الأمريكي السيد جورج بوش يحتفل بانتخابات تحت حماية الدبابات الأمريكية في العراق باعتبارها عملية ديمقراطية، ويبشر العالم بحقوق الإنسان على طريقة رعاة البقر في تكساس وأفلام هولي وود وهم يبيدون الهنود الحمر من أرض الآباء والأجداد. إذا كانت هذه هي الديمقراطية التي ترفع لوائها إدارة بوش وطاقمها المتعجرف وتحاول تسويقها على الشعوب فلا غرابة أن تشتد المقاومة على حضورها في العراق وغيره من اجل ديمقراطية الكرامة الوطنية ، وليست ديمقراطية الفضائح على الطريقة الأمريكية.