الدستور/ عريب الرنتاوي

لسنا نعبث في ’’دفاترنا القديمة’’ حين نعاود الطرق على مسألة العلاقة بين الدين والسياسة، فالموضوع قديم متجدد، ومع كل يوم حافل بالأحداث والتطورات يمر بمنطقتنا العربية، تتصدر هذه المسألة جدول أعمالنا وأولوياتنا.

ونجد في ’’الموسم الانتخابي’’ العربي الممتد من مصر إلى العراق، مرورا بفلسطين غدا والأردن والمغرب العام المقبل، وما يحفل به من تبدلات في المواقف والمواقع وتغيرات في السياسات والاستراتيجيات، ما يملي علينا التأكيد مجددا على وجوب الفصل بين الدين والسياسة، فلا يجوز بحال من الأحوال، إضفاء صفة القداسة على ما هو غير مقدس من مواقف وتكتيكات وتحالفات، وليس جائزا على الإطلاق إشهار سلاح ’’الافتاء’’ وحشد القوائم والعرائض بأسماء رجال الدين ’’الثقاة’’ للبرهنة على صحة موقف وتجريم آخر، لتحليل ممارسة سياسية وتحريم أخرى.
على أحزابنا السياسية العربية، المنتهية أسماؤها بـ’’الإسلام والإسلامية والإسلاميون والمسلمون’’، أن تبادر من تلقاء نفسها إلى الهبوط من ’’علياء السماء ورسالاتها’’ إلى أوحال الدنيا والناس ببرامج وخطط ومشاريع قابلة للقياس والمساءلة والمراجعة، عليها أن تكف عن إدعاء النطق بلسان الوحي والعصمة عن الخطأ، والتصرف ككائنات دنيوية ’’خطاءة’’، مواقفها تحتمل الخطأ والصواب، شأنها في ذلك شأن كل حزب أو جماعة أو فرد منخرط في العمل العام.
عليها أن تكتفي بالإشارة إلى قيم الإسلام ومبادئه العريضة، كمرجعية لعملها ونشاطها وبرامجها، تماما كما فعلت وتفعل أحزاب ذات مرجعيات إسلامية في تركيا والمغرب، وكما عملت من قبلها، أحزاب ذات صفة دينية مسيحية في أوروبا، فلا يجوز لحزب يريد أن ينخرط في لعبة ديمقراطية حقيقية، وأن يكون شريكا في الحكم والسلطة، أن يرفع من مواقفه وشعاراته إلى مستوى القداسة والتقديس، فيصبح الاختلاف معها، خروجا على ’’الملة’’ أو بداية انحراف يفضي إلى الهلاك في الدنيا والآخرة.

عليها، وهي التي تطالب بالتزام قواعد الديمقراطية، أن تعلي من شأن مفهوم ’’المواطنة’’ و’’الشعب مصدر السلطات’’، لا أن تتغطى بدثار السماء لفرض أجندات وتصورات ورؤى للحاضر والمستقبل، تكون سببا في فتنة وانقسام، وتوطئة لتراجع أكيد عن مسارات الديمقراطية والتعددية. لقد شهدنا في السنوات الماضية ’’فتاوى’’ صارمة في تحريم مواقف وممارسات وسياسات، في العراق وفلسطين، وشهدنا بعد سنوات قلائل، فتاوى على ذات الدرجة من الصرامة والجدية، ولكن في الاتجاه المعاكس، فكيف يمكن أن ينطق هؤلاء باسم السماء، لتبرير موقفين متناقضين تمام التناقض، وكيف يمكن تفسير وتبرير ظاهرة ’’فوضى الافتاء’’ في العالمين العربي والإسلامي.

قلنا من قبل، أن الحكومات والنظم العربية مطالبة بإطلاق عملية تحول ديمقراطي، شاملة وديناميكية، تنخرط فيها مختلف القوى والتيارات والاتجاهات، وهو ما لم يحدث حتى الآن في جميع الدول والمجتمعات العربية، ونقول اليوم أن الحركات الإسلامية العربية، مطالبة بأداء قسطها من المسؤولية عن إطلاق هذه العملية، بدءا بإجراء التحولات المطلوبة في لغتها وخطابها وبرامجها، فالكثير من شعارات هذه الحركات، لا تبقي أية قيمة لمفاهيم التعددية واحترام التنوع ومفهوم المواطنة وحرية الرأي والتعبير والاعتقاد، وهي مفاهيم لا قيمة لأية ديمقراطية، إن لم تبن على أعمدتها الصلبة والراسخة.

من حق الحركات الإسلامية أن تنتقد ’’شكلية’’ التحولات الديمقراطية في العالم العربي و’’ديكوريتها’’، لسبب بسيط أنها كذلك في واقع الحال، ومن حقنا أن نقول الشيء ذاته في التحولات ’’الديمقراطية’’ المترددة والخجولة التي تمر هذه الحركات، فالديمقراطية هي الضحية الأبرز لانعدام الإرادة السياسية عند النظم والحكومات للإصلاح والتغيير من جهة، ولهشاشة التحولات الديمقراطية في فكر وخطاب الجماعات الإسلامية العربية من جهة ثانية.

نريد أن نرى هذا التحولات تقرع وبقوة، أبواب الحكومات العربية والحركات الإسلامية، فالديمقراطية أولا وأخيرا، ليست صناديق اقتراع تفتح مرة كل أربع سنوات، على أهمية هذه المسألة، الديمقراطية قواعد وإجراءات ونظم ومبادئ وثقافة يجب أن تحترم وتكرس في الخطاب والممارسة والسلوك، وعندما يتحقق ذلك، فلتفتح صناديق الاقتراع، وليأت إلى الحكم والسلطة من يأتي.