المستقبل ، تركي علي الربيعو

ما يلفت النظر مع نهاية القرن المنصرم وبداية الألفية الجديدة، هو ذلك اللقاء بين الشيخ والليبرالي العربي على قاعدة نقد الاستبداد، فمن وجهة نظر الاثنين، أن آفة الاستبداد تحول دون النهضة المنشودة، وأن تخلف الأمة يرتد الى عامل جوهري يتمثل بالاستبداد، وبالتالي فالهدف هو الحرية ولا شيء غير الحرية. هذه هي صرخة الليبرالي العربي على مدى عقود من الزمن والذي عاد نجمه الى الصعود مجدداً مع بداية الألفية الجديدة كما يعبر عنه الكثير من المؤتمرات الداعية للإصلاح.
اللقاء بين الشيخ والليبرالي العربي على قاعدة نقد الاستبداد، يشير الى أن الشيخ الذي ما ملّ من القول ان تخلفنا يرتد الى عامل جوهري ويتمثل ببعدنا عن رسالة الإسلام، عاد ليغير من قناعاته، فالتخلف لا يرتد فقط الى بعدنا عن الإسلام، بل الى مسخ الاستبداد الذي أغلق على الأمة كل النوافذ وحال بالتالي دون نهضتها ودون وصولها الى سقف التاريخ؟
لا يشعر الشيخ عند لقائه الليبرالي العربي، أن هذا الأخير، يسحب البساط من تحت قدميه، أو يجعله تابعاً، فإرث الشيخ في نقد الاستبداد أبعد في جذوره من نقد الليبرالي الذي ما ملّ من القياس على النموذج الليبرالي الغربي، وخصوصاً الأميركي لاحقاً. يلتفت الشيخ الى الماضي القريب، فيجد الشيخ عبد الرحمن الكواكبي سلفاً وشاهداً في نقد الاستبداد وطبائع الاستعباد، يتباهى به كما تباهى به الليبرالي الذي ما ملّ بدوره من كثرة التقريض للتراث الليبرالي العربي الممتد من الكواكبي الى طه حسين. فالكواكبي في منظور الليبرالي العربي هو نموذج الشيخ المتنور الذي كثيرا ما يفصله الليبرالي على مقاسه والذي يقطع مع شيوخ الظلام كما يحلو لليبراالي وصفهم في ديباجاته العديدة.
ما يجمع الشيخ بالليبرالي في تقريظهما للكواكبي، هو هذا المسكوت عنه عند الكواكبي، فقد رفض الكواكبي أن يربط الاسلام بالاستبداد في حديثه عن علاقات الأديان الأخرى بالاستبداد، وهذا ما يريح الشيخ، صحيح أنه تساءل من أين جاء فقهاء الاستبداد والاستعباد معا؟، لكنه رفض أن يربط بين الاسلام والاستبداد، وهذا ما يسكت عنه الليبرالي الذي تظل معرفته بالتاريخ الإسلامي ملتبسة، ولذلك فهو يقف عند مستوى التساؤل: لماذا يكثر فقهاء الاستبداد وكيف السبيل الى شيخ متنور آخر يكون رافداً لنقد الاستبداد؟
في الحقيقة، أنه وبمقدار ما يلتقي الشيخ والليبرالي على قاعدة نقد الاستبداد، بمقدار ما يفترقان في المفاهيم والأهداف، وهذا ما يجعل من لقائهما تكتيكياً وبراجماتياً، فالليبرالي العربي الذي حطّ رحله في الغرب، و بات يصرخ بضرورة اللحاق بالغرب بخيره وشره، وبالقياس عليه باعتباره نموذجاً يحتذى، كثيراً ما يثير حفيظة الشيخ الذي ما زال ينظر الى الغرب باعتباره داراً للتآمر على العالم الإسلامي والأمة الإسلامية، وفسطاطاً لا يشكل نموذجاً للبناء عليه، وهو وإن كان يلتقي مع الليبرالي في نقد جرثومة الاستبداد، فهو لا يتفق معه بالقول إن الاستبداد العربي هو الذي قاد الى الاحتلال­احتلال العراق­ مع مطلع الألفية الجديدة، فالاحتلال هو ناتج "خطة هجوم" ومؤامرة غربية تستقي مقوماتها من ماض بعيد عرف الكثير من الانتصارات والهزائم بين الطرفين المتخاصمين، وتهدف الى تعطيل نهضة العالم الاسلامي.
لا يركن الشيخ كثيراً الى دور العوامل الداخلية التي يستفيض الليبرالي العربي في التركيز عليها وشرحها، في إطار سعيه الى تبرير الاحتلال وكسر حلقة التخلف، ولذلك فهو لا يتقدم كثيراً في تشريح الاستبداد التاريخي داخل حقل الثقافة والتاريخ الإسلاميين، فمن شأن الحفريات في جذور الملك العضوض العربي، أن تقلل من الوهج الخطابي لكثرة حديثه عن الرسالة الإسلامية الخالدة. من هنا هذا اللقاء البراجماتي بين الاثنين على قاعدة نقد الاستبداد، وهذا لا يعني أن الشيخ سيجعل من الديموقراطية مجرد شعار للوصول الى أهدافه ثم الانقضاض عليها لاحقاً، مثلما اتهمت جبهة الانقاذ الجزائرية وغيرها، فايمانه بالديموقراطية كما تترجمه خطابات وانتخابات يقطع مع نظرية المؤامرة التي يروج لها ليبراليون وآخرون ما ملّوا من اتهام الاسلاميين بالمؤامرة على الديموقراطية.