الخليج، د. عصام نعمان

في غمرة الصراع الذي يلف دول المنطقة مطلوب من سوريا، دولياً وإقليمياً، خمسة أمور رئيسة:

أولها، الخروج نهائيا من لبنان، فلا يبقى لها فيه مرتكز قوة أو نفوذ يساعدها على العودة إليه. سوريا ترفض الانصياع بحجة هشاشة الوضع الأمني في لبنان وانعكاسها سلبا على الوضع الأمني فيها. فالموساد “الإسرائيلي” عاد بقوة إلى الساحة اللبنانية بعد خروج قواتها، وهو يتخذ من لبنان منصةً للنيل من امن سوريا القومي. لذلك، تطلب سوريا تأليف لجنة أمنية لبنانية - سورية مشتركة من اجل التنسيق والتعاون في هذا المجال.

ثانيها، تبادل التمثيل الدبلوماسي بين البلدين لتأكيد إقرار سوريا باستقلال لبنان وسيادته.

ثالثها، ترسيم الحدود بين البلدين لتوثيق لبنانية منطقة شبعا، مما يفضي إلى تعزيز مطالبة لبنان بجلاء القوات “الإسرائيلية” المحتلة عنها. غير ان سوريا ترى الاكتفاء مرحليا بالإقرار بلبنانية هذه المنطقة من دون الانتقال إلى ترسيم حدودها. فالترسيم قد يؤدي إلى انسحاب “إسرائيلي” مشروط بالضغط على لبنان من اجل تجريد حزب الله (المقاومة) من السلاح مع بقاء البلد مهدداً باعتداءات إسرائيلية شبه يومية عليه.

رابعها، التعاون مع لجنة التحقيق الدولية “من دون قيود أو شروط”، في إشارة ضمنية إلى طلب اللجنة مقابلة الرئيس بشار الأسد ووزير خارجيته فاروق الشرع، وذلك تحت طائلة “إعادة هذه المسألة مجددا إلى مجلس الأمن الدولي”.

خامسها، تغيير سوريا سلوكياتها لاستجابة متطلبات السياسة الأمريكية ضد المقاومة و “المتمردين” في العراق، والتوقف عن دعم المقاومة الفلسطينية، حتى لو اقتصر على الدعم السياسي والإعلامي.

مطلوب من لبنان، أمريكياً وفرنسياً، ثلاثة مواقف رئيسية:

أولها، التمسك بمطلب تبادل التمثيل الدبلوماسي مع سوريا، وترسيم الحدود بين البلدين، والتشدد في تنفيذ قرارات مجلس الأمن المتعلقة بالتحقيق في جريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري.

ثانيها، متابعة تنفيذ القرار 1559 القاضي بحل الميليشيات اللبنانية وغير اللبنانية (أي الفلسطينية) وتجريدها من السلاح، ونشر الجيش اللبناني على طول “الخط الأزرق” بين لبنان و”إسرائيل”.

ثالثها، عدم الانجراف مع مساعي التوفيق والمصالحة العربية سواء جاءت في شكل مبادرة من جامعة الدول العربية أو نتيجة الجهود التي تبذلها السعودية ومصر لتطبيع العلاقات السورية اللبنانية والتوفيق بين الفئات اللبنانية المتصارعة.

حيال هذه الخلفية، قام عبد الحليم خدام بإطلاق قنبلته الصوتية المدوّية ضد النظام السوري وبعدها ضد الأسد شخصياً متهما إياه بأنه “أعطى أمر اغتيال رفيق الحريري”. ثمة من يعتقد أن فرنسا وأمريكا تقفان وراء خدام، وان الأمر يتعدى مسألة التشدد في إلزام سوريا بإجراءات التحقيق في جريمة اغتيال الحريري إلى مسألة إحداث تغيير جذري في سلوكياتها حيال قضايا لبنان وفلسطين والعراق، وان الأمر قد ينطوي في آخر المطاف على تغيير النظام السوري نفسه.

إزاء هذا الموقف الأمريكي الفرنسي الصارم، ضاعفت السعودية ومصر جهودهما لتدارك انزلاق الوضع في لبنان، وربما في سوريا، إلى صدامات مسلحة. أخطر من ذلك: تخشى القاهرة والرياض، خصوصا بعد استئناف طهران عملية تخصيب اليورانيوم، أن تواجه دمشق حملة الضغوط عليها بترفيع تفاهمها الاستراتيجي مع طهران إلى مستوى التحالف السياسي والدفاعي. كل ذلك يؤدي، بعد فوز القوى الموالية لإيران في الإنتخابات العراقية، إلى قسمة العرب والمسلمين معسكرين، سني وشيعي، متصارعين. وغني عن البيان ان تطورا خطيراً كهذا يخدم “إسرائيل” ومطامعها التوسعية بالدرجة الأولى، كما انه يعجّل في انفجار الأوضاع الداخلية في دول عربية عدّة وانزلاقها إلى حضيض “الفوضى الخلاّقة”.

في حمأة التوتر والصراع المتزايدين، ما الممكن وما المستحيل في الأمور والمواقف التي يطلبها أهل القرار الاقليميون والدوليون من سوريا ولبنان؟

تبدو دمشق مستعدة لتقديم تنازلات في جميع الأمور المطلوبة منها باستثناء مسألتين: إخضاع الرئيس السوري شخصياً للاستجواب امام لجنة التحقيق الدولية، وإسهام سوريا مباشرةً في ضرب المقاومة في كل من العراق وفلسطين ولبنان. كما تبدو سوريا مستعدة للإسهام في احتواء المقاومات الثلاث في إطار تسوية شاملة تقرّها قمة عربية استثنائية تعتمد أسسا مشابهة للتسوية التي أقرتها قمة القاهرة العام 1976 من اجل وقف الحرب الأهلية اللبنانية. لكن دمشق ترفض ضرب المقاومات الثلاث من أجل عيون أمريكا وفرنسا و”إسرائيل”. كما تستهول دمشق إخضاع الأسد للاستجواب وتفسره بأنه إجراء عدائي يؤشر إلى مباشرة واشنطن وباريس خطوات جادة لقلب النظام السياسي القائم.

ائتلاف قوى الأكثرية الحاكمة في بيروت يبدو مستعدا للتفاوض وللتنازل على صعيد كل ما هو عالق من مشاكل بين لبنان وسوريا باستثناء عودة القوات السورية إلى البلاد تحت أية ذريعة من الذرائع حتى لو كانت تجريد المقاومتين الفلسطينية واللبنانية من السلاح.

بين ما هو ممكن وما هو مستحيل في سوريا ولبنان وكذلك في العراق، هل تسمح أمريكا للعرب باجتراح تسوية ملائمة لتفادي الانزلاق إلى “الفوضى الخلاقة” الشاملة؟ وهل يهون العرب، لاسيما عرب المشرق ووادي النيل والجزيرة العربية، أمام أمريكا و”اسرائيل” لدرجة تستغلان معها خلافاتهم المزمنة لإرهاقهم، فوق كارثتي فلسطين والعراق، بكارثة جديدة في لبنان؟

بل هل تتهاون قوى الممانعة والمقاومة القومية والإسلامية مع أمريكا فيقوم هؤلاء جميعا بتنفيذ ما تعتبره تلك القوى بمثابة مستحيلات في قاموسها الجهادي؟

العرب، مرة أخرى، على مفترق طرق مصيري.