تشكل جولة ديك تشيني نائب الرئيس الأميركي الأخيرة في المنطقة (مصر والسعودية)، حدثا مهما للغاية، بسبب الظرف السياسي الذي تتم فيه، وبسبب الانخراط الأميركي المباشر في كل المعارك الناشبة في المنطقة، وبسبب بروز تناقض في المواقف الأميركية والعربية يصل إلى حد المواجهة.

المعارك كثيرة وساخنة: المعركة الأميركية مع ايران حول سعيها لامتلاك القدرة النووية. المعركة الأميركية في العراق والمأزق الذي تواجهه هناك بفعل المقاومة الوطنية العراقية للاحتلال، وبفعل الفشل الذي تغرق فيه الحكومات العراقية المتعاونة مع الاحتلال. والمعركة الأميركية في فلسطين حيث الدعم السياسي لإسرائيل مع التمسك بضرورة إجراء الانتخابات الفلسطينية، لإظهار نجاح تحققه سياسة الرئيس الأميركي كي يستعمله في معركته الداخلية، مع تجاهل كامل لما يعانيه الفلسطينيون من أفاعيل الاحتلال الإسرائيلي. ثم تأتي أخيرا المعركة الأميركية ضد سوريا والتي تتخذ من لبنان منطلقا لها.

تندلع هذه المعارك كلها في وقت واحد، وتلعب الولايات المتحدة الأميركية فيها دورا بارزا وأساسيا في وقت واحد، وتختلف بشأنها كلها مع العواصم العربية الفاعلة. ففي المعركة الأميركية مع ايران ترفض العواصم العربية منطق التهديد الذي تستعمله واشنطن، وترى ضرورة إعطاء مساحة واسعة للحوار، وضرورة أن يسري منطق حظر السلاح النووي على إسرائيل وليس على ايران فقط. وفي المعركة الأميركية في العراق ترفض العواصم العربية التجاوب مع الدعوة الأميركية لإرسال قوات عربية إلى العراق، وترى أن أمرا كهذا مرهون بقيام تفاهم عراقي داخلي أولا، بينما يعيش هذا التفاهم حالة غياب تنذر بالمخاطر. وفي المعركة الأميركية في فلسطين تنتاب العواصم العربية حالة من الغضب وهي تراقب تمادي السياسة الأميركية في رعاية الاحتلال الإسرائيلي والتغاضي عن جرائمه، وتطور الأوضاع إلى حد يلغي التفكير بالمفاوضات والبحث عن حلول إسرائيلية ـ أميركية، تفرض فرضا على الفلسطينيين. ثم تأتي في النهاية المعركة الأميركية ضد سوريا مع تداعياتها اللبنانية الشديدة الحساسية، وتقفز هذه المعركة فجأة إلى مقدمة أجندة البحث، وتتحول إلى نوع من المواجهة الساخنة بين العواصم العربية المعنية ونائب الرئيس الأميركي.

عنوان المواجهة الساخنة، أن العواصم العربية المعنية، شعرت بالقلق الشديد من مسألتين: تصاعد الخلاف والتوتر بين لبنان وسوريا كدولتين، وتفاقم الأزمة اللبنانية الداخلية واقترابها من حدود الانفجار، فبادرت إلى بذل نشاط عربي ودولي في محاولة لاحتواء الوضع. وفي إطار هذا النشاط ذهب سعود الفيصل إلى باريس حيث تباحث مع المسؤولين الفرنسيين حول حدود موقفهم، واستدعى السفير السعودي في لبنان ليحضر إلى باريس على وجه السرعة (ولو باستئجار طائرة خاصة) ليطلع منه على حدود المواقف اللبنانية، ثم ذهب إلى دمشق ليعقد لقاء سريعا مع الرئيس بشارالأسد ويطلع منه على حدود الموقف السوري، ثم توجه الرئيس السوري بشار الأسد، عقب ذلك كله، إلى السعودية ليعقد لقاء قمة مع الملك عبد الله، ثم توجه إلى القاهرة ليعقد لقاء قمة مع الرئيس حسني مبارك.

لم تكن هذه التحركات كلها بالطبع تحركات مجاملة، بل عبرت عن سعي دؤوب لاستنباط ما لا بد له في النهاية أن يتخذ شكل مبادرة، ولا شك أن الملك عبد الله، وهو الداعي والراعي لهذا التحرك كله، قد تحدث عن خطورة الوضع بين سوريا ولبنان وضرورة تلافيه ودفعه نحو مسار طبيعي، عارضا بالضرورة أفكاره واقتراحاته، ولا شك أن الرئيس بشار الأسد، وهو الذي يدرك أكثر من غيره معنى ومغزى دعوة الملك عبد الله إليه ليلتقيه، قد بادر بدوره إلى تقديم اقتراحات وأفكار تتجاوب مع ما ينشده الملك عبد الله. وسواء أسفر هذا الحوار عن مجموعة من الأفكار، أو عن مجموعة من الاقتراحات، أو عن بنود لمبادرة، فإن الحصيلة كانت موقفا عربيا ترعاه السعودية، وتؤيده مصر، وتنسجم معه سوريا، وهو الموقف العربي الأول من نوعه منذ اندلاع الأزمة في لبنان بعد حادث اغتيال رئيس الوزراء رفيق الحريري. ولم يقصر الملك عبد الله، في عرض الأمر كله، والتشاور بشأنه، مع فؤاد السنيورة رئيس وزراء لبنان، ومع نبيه بري رئيس البرلمان اللبناني، طالبا دراسة الاقتراحات والرد عليها من أجل بلورتها في صورة مقبولة من الجميع. وشكل هذا الجهد أهم وأبرز تحرك عربي بعد فترة من الركود السياسي، بدا معها وكأن الأمور تجري في المنطقة العربية من دون أن تحظى بالاهتمام الكافي ممن يعنيهم الأمر. وكان من المتوقع أن يحظى هذا التحرك باهتمام بالغ، وبخاصة من الأطراف اللبنانية التي بدأت تكتوي بالأزمة التي تعيشها.

ولكن المفاجأة جاءت من لبنان، من البلد الذي كان يعتقد أنه سيكون أكبر المرحبين بجهد سعودي مبادر لمساعدته في تخطي أزمته، وهو أيضا البلد الذي كان له فضل رعاية اتفاق الطائف الذي أنهى الحرب اللبنانية ووضع لبنان على طريق الاستقرار والتعمير من جديد، إذ برزت فجأة أصوات لبنانية ترفض «الحل العربي»، أو ترفض «الحل القادم من الخارج»، أو ترفضه باعتباره اقتراحا سوريا وليس اقتراحا سعوديا. ثم جاءت الصدمة الأكبر حين وصل إلى بيروت وفد أميركي (ديفيد وولش وإليوت أبراهامز)، وأعلن وولش صراحة أن بلاده ترفض أية حلول لا تنبع من الديمقراطية اللبنانية. لم يكن عنوان الصدمة أن هناك أطرافا لبنانية تردد ما يقوله الأميركيون عبر إعلامهم أو عبر سفرائهم، ولكن عنوان الصدمة تمثل في بروز مواجهة أميركية ـ عربية، وتمثل في الإعلان عن موقف أميركي يرفض دورا عربيا في لبنان، حتى ولو كان هذا الدور ساعيا إلى مساعدة لبنان في تخطي أزماته.

وفي لحظة التصادم هذه بالذات، بين الحل الأميركي والحل العربي في لبنان، جاء ديك تشيني في جولته، وهي ستكون بالتأكيد، وبسبب سخونة الأزمات المتجمعة والمتفجرة كلها في آن واحد، جولة مكاشفة صريحة، حيث يكون للصراحة في السياسة احيانا دوي كدوي الانفجارات.

لا أحد يدري حتى الآن ماذا جرى بين الملك عبد الله وديك تشيني، ولكن حين تذكر الأنباء أنهما بحثا في قضايا ايران والعراق وفلسطين وسوريا ولبنان، ثم يقول البيان الرسمي أنهما اتفقا على «ضرورة أن يأخذ التحقيق الدولي في مقتل الحريري مجراه»، فإن معنى ذلك دبلوماسيا، أنهما اختلفا حول كل القضايا الأخرى التي تمت مناقشتها. هذه المواجهة العربية الأميركية هي الأولى من نوعها في السنوات الأخيرة بصدد قضايا عربية بحتة، لا بعد دوليا لها يتعلق بإسرائيل، وهي مواجهة سيكون لها شأنها لأنها لا بد أن تعكس نفسها على قضايا ايران والعراق وفلسطين، حيث تطلب الولايات المتحدة الأميركية موقفا عربيا مساعدا لها. فهل يمكن طلب الدور العربي في مكان ورفض الدور العربي في مكان آخر؟

إن المسألة هنا تتجاوز الاختلاف في المواقف كما يحدث عادة بين الدول والقادة، ذلك أن الرفض الأميركي للدور العربي في لبنان يقوم على قاعدة دور أميركي يريد الانطلاق من لبنان لإسقاط النظام السوري، وهو يفعل كل ذلك من أجل التوجه نحو هدفه المركزي المتمثل في محاصرة ايران وضرب منشآتها النووية، حيث لإسرائيل دور أساسي في ذلك، فهل يتوقع المسؤولون الأميركيون من العرب أن يوافقوا لهم على كل ذلك؟ إن الأميركيين يعملون حسب مخطط خاص بهم، وقد أصبح هذا المخطط قيد التنفيذ الآن، وهو يتناقض أحيانا، ويختلف أحيانا، مع مصالح ومواقف عربية كثيرة، فهل يستطيع الأميركيون التقدم في مخططهم وقد أصبحت المعارضة العربية له واضحة وجلية؟