خلال ثلاثة أجيال انقضت بعد الحرب العالمية الثانية، مرت العلاقة بين العالم العربي والمركز الغربي بثلاث مراحل: مرحلة سياسية، مرحلة حضارية، ومرحلة جيوسياسية.

- المرحلة الأولى هي مرحلة نزع الاستعمار والتنمية والتقدم، وانتهت بين 1967 و 1973. في هذه المرحلة أدركت النخب المثقفة والسياسية مجتمعاتها كمجتمعات متخلفة، ما كان يعني وقتها أنها متأخرة في مجال التقنيات والاقتصاد والإدارة والتعليم والعلم عن الغرب المتقدم أو الشرق الاشتراكي، وأن حل مشكلة التخلف مسألة جهد ووقت وموارد. كانت هذه مرحلة الثقة بالسياسة، والفاعل الأساسي فيها هو الدولة التي اعتبرت قاطرة للتقدم. كان نقد القاطرة غائبا على العموم، أو كان ينحل في تحليلات طبقية (بورجوازية، إقطاع، بورجوازية صغيرة...) أو أحكام إيديولوجية (تقدمية ورجعية، مستقلة وتابعة، جمهورية وملكية...). بنيان الدولة وعقلانيتها وصفتها التمثيلية لم تكن مواضع نقاش. التفكير بالثقافة كان أيضا غائبا. بدلا منها كان ثمة حماسات إيديولوجية تخضع الثقافة لمهام التحرير أو الثورة أو الوحدة القومية. المرجعيات الفكرية هنا هي القومية المستقلة العالم - ثالثية العاملة على تجاوز التخلف، أو المادية التاريخية السوفياتية، وبدرجة أقل التنموية الأميركية (نظرية الإقلاع الاقتصادي لوالت ويتمان روستو)، التي كان تأثيرها يمر عبر المؤسسات المالية الدولية. وهي تشترك جميعا في كونوية جاهزة تنكر أية خصوصية. بطل هذه المرحلة جمال عبد الناصر دونما منازع.

- المرحلة الثانية «حضارية»، بدأت في 1973 حين أخفق العرب في الرد على هزيمة حزيران (يونيو) ووضع حد للتوسعية الإسرائيلية، وانتهت في وقت ما بين 1991 و2001، أي بين عودة الحضور الأميركي المباشر والكثيف في الخليج وبين هجمات 11 أيلول (سبتمبر) في أميركا. نسميها مرحلة حضارية لأن الإشكالية التي هيمنت في وعي النخب الثقافية العربية في غضونها هي إشكالية الثقافة والهوية والتراث والحداثة وما إلى ذلك. الوعي الذاتي لهذه المرحلة منفصم عن مضمونها الموضوعي: إخفاق الحركة القومية التحديثية المستقلة وفشل مشروعي الوحدة القومي والمساواة الاشتراكي، واندلاع الطغيان والأنظمة الطائفية والحروب الأهلية. وفي الوقت نفسه الانهزام أمام السيطرة الغربية وطليعتها الأميركية. الانفصام هذا يعكس غياب الفاعل، أو انفصال فاعلية العرب السياسية عن معنى يمكن أن تتكون حوله هيمنة جديدة منتجة لأكثرية جديدة وشرعية جديدة. فانفكاك مشروع التحديث القومي أثمر قوة بلا معنى جنحت نحو الطغيان والافتراس هي نظم الحكم الفاشلة، ومعنى بلا قوة جنح إلى مطابقة ذاته بالإسلام. ليس وعي المرحلة هذه منفصما إلا لأنها هي ذاتا مرحلة فصام: تباعد المعنى والقوة، وضياع الأثر الموحد واللاحم للتحرك والعمل القومي. ظلت الأنظمة شعبوية، لكن بلا أدنى درجة من المشاركة الشعبية. إنه زمن حرب أهلية من طرف واحد: طغيان الدول؛ أو من كل طرف: انهيار الدولة كما في لبنان والصومال، وبدرجات بين بين في اليمن والسودان والجزائر، ومزيج من الطغيان والعنف الدموي في سوريا ومصر والعراق. إنها ايضا مرحلة انتقال إسرائيل من مرحلة التأسيس إلى مرحلة التوسع والتفوق. وهي أخيرا المرحلة التي ظهر التخلف فيها أكثر فأكثر كتأخر ثقافي. هنا تبرز الخصوصانية، المضادة للحداثة وتأثيرها المذيب للماهيات، إما في سياق تفسيري للتخلف أو في سياق معياري لتأكيد الاختلاف. المخططات الكونويّة تزول دونما أثر تقريباً، أو تبقى في أطر تداول ضيقة. الكونية كعنصر مكون للفكر تبقى عند عدد قليل من المثقفين، فيما تغيب الكونية السياسية تماما. ليس للمرحلة هذه بطل واحد: أنور السادات احد أبطالها، خالد الإسلامبولي أحدهم، وصدام حسين أحدهم. الأول يرمز لإخفاق الاستقلالية المصرية والعربية، والثاني لانفصال المعنى عن السلطة، والأخير لانفصال السلطة عن المعنى.

- مرحلة ثالثة جيوسياسية يمكن أن نعتبرها بدأت عام 1991 أو عام 2001. هنا الفاعل الأساسي هو الأميركيون. الدولة موضوع التغيير وليست فاعله أو قاطرة التقدم. برنامج الفاعل الأميركي هو «تغيير الأنظمة» و»إعادة رسم الخرائط»، أو «الشرق الأوسط الكبير». سنلاحظ أن تغيير الأنظمة وإعادة رسم الخرائط هو ذاته البرنامج القومي العربي، الذي أمل أن يسقط الأنظمة «الرجعية» و»القطرية» و»التابعة»، وأن يوحد الدول العربية. سنلاحظ أيضا «الشرق الأوسط الكبير» هو نسخة أميركية من «الوطن العربي الكبير». هنا مرحلة جديدة من مراحل إخفاق الحداثة العربية تتمثل في الانتقال من الهزيمة إلى التفكك، من هزيمة الدول إلى تفكك الكيانات. ومن الطبيعي أن تدفع الفكرة العربية ثمن الإخفاق من حسابها. ستتهم باللاإنسانية ومعاداة الديموقراطية واضطهاد الأقليات أو إبادتها. ويمتزج بتجريم العروبة عناصر نزع نزع الاستعمار، على صعيد الثقافة والوعي، كما على صعيد السلطة والترتيبات الإقليمية (قواعد عسكرية، تفاهمات أمنية، تسهيلات مرور، مناورات مشتركة، تنسيق..). لا كونوية ولا خصوصانية، هنا سلطة امبريالية جديدة. من أبطال هذه المرحلة؟ بطلاها الإرهابي والخائن. أسامة بن لادن، ونموذج أحمد الجلبي، وإن لم يكن شخصه.

مزجنا في رسم ملامح هذه المراحل بين الوقائع والوعي، بين وقائع الوعي ووعي الوقائع.

في المرحلة الأولى كانت إشكالية الهوية غير حاضرة لأنها كانت محلولة في العمل التاريخي من أجل التنمية والثورة الاجتماعية والتحرر من الاستعمار والوحدة العربية. هذه المهام كانت عناصر في مشروع هيمنة هو الوحيد الذي عرفه المجال العربي في العصر الحديث.

المرحلة اللاحقة هي مرحلة تفكك المشروع القومي ذاك الذي جعل العرب قوة صاعدة، واقتحام مشكلة الهوية المسرح الثقافي، وانفلات الدولة من التحكم الاجتماعي.

المرحلة الثالثة جديدة. يدخلها العرب من موقع ضعف شديد مادي ومعنوي. المقصود بالمعنوي هو أزمة الفكرة العربية وأزمة الرابطة العربية.

قد يبدو لنا في ختام هذا التناول التخطيطي أن تغيير الأنظمة وإعادة رسم الخرائط من لوازم كل مشروع هيمنة في المنطقة التي ظلت جغرافيتها السياسية سائلة منذ نهاية الحرب العالمية الأولى. وقد نتخيل أن الهيمنة الأميركية ستكون ذات مفعول متناقض: من جهة توحيد المنطقة تحت ظل الامبراطورية الأميركية أو السلم الأميركي، ومن جهة ثانية تسعير المنافسات والصراعات الدينية والإثنية والطائفية، وإزاحة العرب إلى موقع ثانوي، بعد أن لم يعد لهم مشروع هيمنة منذ أكثر من ثلاثين عاما. وبما أن العرب هم أكثرية سكان «الشرق الأوسط الكبير»، وأنه يستحيل تشكيل أكثرية جديدة مع إسقاطهم من الحساب، فإن من المقدر ألا تكون الهيمنة الأميركية مستقرة، وأنها ستواجه بمقاومات متنوعة. على كل حال لا تزال العمليتان كلتاهما، التوحيد والتفريق الامبراطوريان، في بدايتهما. والأرجح أن أمامنا مرحلة طويلة من اللااستقرار.