أثار طرح واشنطن التغييري لبنى الشرق الأوسط، بعد 11 أيلول (سبتمبر) 2001، زلزالاً في المشهدية السياسية للمنطقة، وولًد اضطراباً على صعيد الأنظمة. واذا كان بعضها تمكن في النهاية من اقناع الولايات المتحدة بأنه البديل الأفضل قياساً بالإسلاميين، إلا أنه لم يستطع التكيف بعد مع استخدام واشنطن أحياناً تجاوزات هذا البعض للحريات كعنصر ضغط عليه، وهو ما لم يكن موجوداً في الماضي.

فيما رأينا قوى فئوية وإثنية وليبرالية وشيوعية في العراق والسودان، مثلاً، تركب في المركب الأميركي لتغيير المشهد الداخلي، وكذلك في سورية لدى قوى الليبرالية الجديدة والأكراد، مع موقف وسطي لـ»الإخوان المسلمين» والناصريين، وهو مشهد ليس بعيداً عما يجري في مصر لدى الليبراليين والقوى القبطية، مع ترددات «اخوانية» واضحة، كما ركبت ذلك المركب في لبنان، لتغيير الواقع السوري هناك، قوى فئوية ويساريون متحولون استطاعوا تغيير المشهد الداخلي اللبناني عبر ملاقاة الرياح الخارجية.

في ظل هذه الثنائية المتشكلة انتكس وتعثر الخط الثالث خلال الأعوام الأربعة الماضية، في مجتمعات لم تعتمد الرمادي والبني في السياسة، وما زال يحكمها في الغالب منطق الأبيض والأسود. كان هذا الخط موجوداً منذأواخر السبعينات عند قوى يسارية، في سورية ومصر والعراق، طلَقت الفكر السوفياتي لتأخذ موقفاً يستعيد الديموقراطية، التي ناصبها اليساريون العداء في الستينات والسبعينات،في وجه ديكتاتورية الأنظمة، مع أخذ موقف من المشاريع الأميركية في المنطقة، والتي كانت تلتقي مع غالبية السلطات الحاكمة، ما جعلها توحد الموقف الوطني ضد الخارج الأميركي والسوفياتي، مع موقف ديموقراطي ضد الأنظمة التي كانت تعيش على الأوكسجين الخارجي في غالب الأحيان.

مع تشكل تلك الثنائية المتنافرة والمتباعدة، والمتضادة أحياناً، بين القطب الواحد وأنظمة عربية عدة، لم يستطع كثيرون من أصحاب الخط الثالث البقاء في مواقعهم، بل أسرع عدد منهم إلى ركوب المركب الأميركي، ولم يكتف بعضهم بذلك سياسياً من دون تغيير قميصه الايديولوجي كما لدى شيوعيي السودان، بل - كما في سورية ولدى كثيرين من الماركسيين في بلدان عربية أخرى - خلعوا قميصهم الايديولوجي ليرتدوا آخر ليبرالياً مع تخلٍ واضح عن الخط الوطني الديموقراطي لمصلحة «الديموقراطية المحضة» من دون أخذ موقف مضاد، فتوزعوا بين السكوت التحبيذي أو التأييد الصريح للخارج الدولي الآتي إلى المنطقة لإعادة صوغ بلدانها، ليس فقط في السياسات الاقليمية كما كان يجري في الماضي، وإنما أيضاً، وخصوصاً، لإعادة رسم أوضاعها الداخلية في المجالات المختلفة.

في ظل الأوضاع العربية الراهنة، نلاحظ أن «الخط الوطني الديموقراطي» هو أضعف الخطوط السياسية، بين خط «الديموقراطية المحضة» وخط بعض الأنظمة العربية التي تأخذ، من الناحية الموضوعية وليس الإرادية، موقعاً «وطنياً» في ظل استهداف خارجي لا يستهدفها بالذات، وإنما لأنها مجرد عنوان لاستهداف البلد والجغرافية السياسية. هذا الخط لم يستطع أن يظهر نفسه في عراق 2002 - 2003، ولا في فترة ما بعد الاحتلال، فيما نراه خافتاً في سورية بين خطي السلطة و»اعلان دمشق»، وضائع أو غبر واضح المعالم في السودان ومصر، فيما نلاحظ أنه عندما تُزال تلك الثنائية بإزاحة الخارج للنظام، كما في العراق مثلاً، فإن القوى المواجهة للاحتلال تطرح برنامجاً وطنياً محضاً تُفتقد فيه ملامح الديموقراطية.

أما عندما يقيم بعضهم ثلاثية، تضم «الوطني» و»الديموقراطي» و»الاقتصادي الاجتماعي»، كما في سورية لدى «تيار قاسيون» الشيوعي بقيادة الدكتور قدري جميل، فإن الأول والثالث يغلبان على الثاني. فلماذا يكثر، إلى هذا الحد، نموذج بيتان في العالم العربي؟