كيف يمكن قراءة وفهم لوحة العالم العربي السريالية في غمرة هذه الفوضى السياسية العارمة؟

القراءة المجزأة للوحة لا تكفي. اجتهاد المعلقين العرب في قراءة الحدث السياسي والانتخابي في العراق ومصر ولبنان وسورية وفلسطين... كل على حدة، لا يفيد في إيضاح وتفسير الغموض والفوضى. الأمر في غاية البساطة. لا بد من العودة إلى الرسام الذي «أبدعت» أنامله اللوحة.

استدعاء العم سام المستعجل للحرية السياسية الغائبة في العالم العربي، فرش فورا على اللوحة قوى دينية وطائفية غامضة. الرغبة الأميركية الجارفة والمفاجئة في إمساك اللوحة العربية بالمقلوب، هزت الأساس الذي قام عليه الاستقرار النسبي في المنطقة.

على مدى نصف قرن، قامت الاستراتيجية الأميركية في المنطقة على الرضا عن تغييب الحرية السياسية، لحماية مصالحها الحيوية وانحيازها لإسرائيل من الغضب العربي. بعد عملية 11 سبتمبر اعتبرت إدارة بوش أن إلغاء السياسة لم يعد حاميا لهذه المصالح. بدلا من إقناع النظام العربي باستيلاد قوى سياسية جديدة مؤمنة حقا بالحرية، وبدلا من إتاحة الوقت الكافي لتدريب المجتمعات العربية على اختيار الأصلح في ديمقراطية الاقتراع، فقد فرضت إدارة بوش على النظام إطلاق «مارد» السياسة المضغوط في القنينة.

حيثما تجاوب النظام العربي مع رسام الحرية الفالتة الأميركي، فنحن اليوم، أمام لوحة سريالية تتحرك عليها قوى دينية وطائفية متسيسة ومسلحة، غامضة النوايا والمواقف إزاء الحرية والديمقراطية. في استحالة إعادة المارد إلى قنينة النظام، تحاول البراغماتية الأميركية التعامل مع قوى «المارد» الديني والطائفي، بتقديم التنازلات لها في العراق، وهز العصا في وجهها في لبنان، والضغط عليها في الضفة وغزة، والترحيب بها في مصر، كل ذلك أملا في استيعاب وأمركة الحزب الديني!

هذه التناقضات الأميركية الصارخة في التعامل مع الحزب الديني هنا وهناك، هي السبب في غموض اللوحة السريالية والعجز العربي عن قراءتها وتفسير فوضاها التي أحدثتها في المعرض الأميركي «للشرق الأوسط الكبير وشمال افريقيا».

وهكذا، نحن اليوم أمام أسلمة و«تطييف» مشروع الديمقراطية الأميركي. البراغماتية الأميركية تقبل بالأمر الواقع الذي صنعته بعجلتها وغبائها على الساحة العربية: ديمقراطية طائفية تتحرك فرقها وأحزابها على أرض العراق بـ «ريموت كونترول» إيراني، ويسكت بوش عن مليشياتها المسلحة، فيما يحاول استرضاء الحزب الديني الإخواني الذي خاض الانتخابات بلائحة طائفية سنية. في الوقت ذاته، يتناقض موقف بوش المهادن للطائفة ومليشياتها في العراق، مع موقفه المعارض لسلاح «حزب الله» اللبناني، والرافض لسلاح «حماس» الفلسطيني!

كانت تركيا النجاح الوحيد للمشروع الأميركي. تمت أسلمة الديمقراطية الأميركية هناك، في مقابل أمركة الحزب الديني، وإيصاله إلى الحكم عبر صندوق الاقتراع، على الرغم من أنف الكمالية «العلمانية».

نسيت أميركا تجربة الجزائر، عندما كاد الشاذلي بن جديد يسلم الحزب الديني السلطة والحكم، قبل إعداد وتأهيل الناخبين الجزائريين لممارسة ديمقراطية الاقتراع بكفاءة تسمح بتوزيع «الجبنة» الانتخابية على الأحزاب، كيلا يحتكر أحدها الحكم.

حيثما تتم هدهدة عجلة المشروع الأميركي وأسلمته للسياسة، أمكن في الخليج تجنب وصول قوى معارضة أكثر محافظة من النظام الخليجي. أيضاً، سمع ذكاء النظام المصري في اتباع أسلوب الاقتراع على مراحل، في تطويق اجتياح الحزب الديني للصندوق الانتخابي في المرحلة الأولى، وإلا لكان صدى نجاحه في مصر أكبر وأوقع في العالم العربي، من صدى نجاح الحزب الديني في الضفة وغزة.

مسكين محمود عباس! الرجل ليس في دهاء عرفات، ولا يملك ذكاء النظامين الخليجي والمصري. لم يتوقع عباس أسلمة مشروع الديمقراطية الأميركي. أجرى انتخابات حرة في غمرة تفتت حزبه التاريخي (فتح) وفساد الإدارة والسلطة. ربما كان اتفاقه مع أميركا على ديمقراطية تسمح بحزب ديني مستأنس في معارضته. لكن خلافا للحكاية الشعبية، فقد سبق أرنب حماس سلحفاة عباس. لولا بوش وكوندوليزا لاستقال عباس. مشكلة عباس اليوم في إعادة «ترميم» فتح. مشكلة حماس في رفض أو قبول أمركة مشروعها وميثاقها.

قد تسألني: هل ينضوي علم «حماس» الأخضر الذي فرشته، خطأ، على مبنى المجلس التشريعي، تحت مظلة مشروع الأمركة للحزب الديني في المنطقة؟

التكهن في السياسة رجم في الغيب. لكن من المقارنة والاستقراء والقياس، يمكن القول إن «حماس» قادرة على الهبوط، بسقف مشروعها وميثاقها، إلى أرض «الواقع الأميركي». الميثاق يتخلص في ثلاثة: دولة واحدة من النهر إلى البحر. تطبيق الشريعة. المقاومة الجهادية المسلحة.

غسلت مياه البحر والنهر الميثاق! لا شيء سوى «مانيفستو» الدعاية الانتخابية ضد الفساد، والدعوة لدولة الكفاءات والخدمات. «المانيفستو» الخدمي هو الذي أوصل «حماس» لا الميثاق، «فهو ليس بقرآن»، على حد قول أحد زعمائها!

الماضي الحماسي يتراوح بين الملاينة والمسايرة والتشدد. نشأ الحزب الإخواني في غزة، في وقت كان الجنرال شارون يحكم القطاع بقبضته الحديدية. لاقتلاع مقاومة «فتح»، استمتع الإخوان براحة مهادنة العدو الذي غض النظر عن مد شبكة خدماتهم الاجتماعية. الانغماس الاضطراري في السياسة كان لمنافسة «فتح» في انتفاضة الأحجار الأولى. في المزايدة على أوسلو، أوصلت عمليات «حماس» الانتحارية وعسكرتها للانتفاضة الثانية اليمين الإسرائيلي للحكم.

مرة أخرى، من التشدد إلى الملاينة: هدنة مع إسرائيل. مهادة لسلطة فتح وعباس. عدم الرد على اغتيال الأطر والزعماء. أخيرا الاندماج في العملية السياسية والانتخابية، ركوباً لموجة أسلمة المشروع الديمقراطي الأميركي. «حماس» تقتدي في ذلك، بحزبها الإخواني في مصر، وبحزبها السني الطائفي في العراق، بل بحزبها الإخواني السوري المخيم في لندن الذي بارك الانشقاق الذي أحدثه المشروع الأميركي في قمة النظام السوري، مستغلا أخطاءه في لبنان.

لا تسلني، عزيزي القارئ، عن استعداد حماس لتعديل ميثاقها، والاعتراف بإسرائيل ومفاوضتها، وعن إمكانية تخليها عن سلاحها وجهاديتها.

أحيلك إلى الترجمة العربية لتصريحات زعماء حماس السياسية: حماس الداخل تفضل مشاركة فتح في السلطة، واعتماد السلحفاة عباس في مفاوضة إسرائيل، من خلال منظمة التحرير.

«مشعل» حماس في الخارج كان يهدد من دمشق قبل زيارته لطهران بإلغاء الهدنة مع إسرائيل واستئناف «الجهاد». «مشعل» الانتخابات يقول كل شيء ممكن: حماس ستحكم مباشرة لا بالواسطة، وقد يعني ذلك المفاوضة والهدنة والتهدئة. البراغماتية ستكون أسلوبها. فلا إكراه في الدين، ولا تطبيق للشريعة!

بعد ذلك كله، هل بقي شيء من حماس الآيديولوجيا يمنع أمركة الحركة؟

إذا تمت أمركة الحزب الديني في العالم العربي، بعد أسلمة المشروع الأميركي، يبقى سؤال على الحزب وأميركا أن يجاوبا عنه: إذا اقترب الحزب من السلطة والحكم، فكيف سيتعامل مع المؤسسات المعارضة له، من مؤسسات المجتمع المدني الخائفة منه، إلى المؤسسة العسكرية الرافضة له، ومن الأقليات العنصرية إلى الأقليات الدينية التي لا تقبل برتبة مواطنية أدنى في دولة دينية؟