أعلنت <<قوى 14 آذار>> رسمياً حربها على علم الاجتماع، فعند هذه القوى أن أي تحليل سوسيولوجي للظواهر المتفلتة يخاطر بتبيان هشاشة التركيب اللبناني وتخلعه، في حين أن حدث 14 آذار 2005 نفسه جاء يظهر حقيقة الشعب الصلب الواحد الذي تعاهد الدفاع عن <<لبنان العظيم>> (ربما على غرار بريطانيا العظمى)، أي أنه تعاهد بأنه لن يؤخذ ثانية، ولن يغرّر به، وسيحجم كل أبنائه عن اللعب <<بالوتر الطائفي>>، لأن هذا الوتر كان في حقيقة الأمر خديعة ينتجها ويبثها <<النظام الأمني اللبناني السوري المشترك>> ويتمكن من خلالها من إحكام قبضته على الشأن اللبناني بعامة، واستتباع كل طائفة بعد أن يستفردها ثم يشطّرها.

بالنتيجة، فإن أي تحليل سوسيولوجي يصبّ في خانة التشويش على الحقيقة والتبرير للنظام الأمني اللبناني السوري المشترك. وما هي قمة التحليل السوسيولوجي المشبوه؟ أن يدّعي أحدهم بأن الأكثرية البرلمانية لا تمثل أكثرية سوسيولوجية. وهكذا، يطل علينا شيخ الطريقة الصوفية المستجدّة، سمير جعجع، في <<كلام الناس>> ليقول إن اللبنانيين قسمان، مسيحيون ومسلمون، وأكثرية المسلمين يمثلها سعد الحريري وتيار المستقبل، وقد حرص جعجع في كل المقابلات والتصريحات التي سبقت أو تلت بأن يماهي بين المسلمين بعامة وبين المسلمين السنة، كأن الشيعة الاثني عشرية عنده ليسوا مسلمين، أو كأن عددهم ضحل أو يقارن بحجم الطائفة الاسماعيلية في لبنان مثلاً. قبل أن يقول لنا سمير جعجع ما اذا كان حزب الله يمثل أكثرية طائفته أو لا، فهو يسقط الشيعة أصلاً من حسابه حين يتكلم عن المسلمين، وعن أكثرية المسلمين الساحقة المعقودة اللواء لجانب واحد. ما يكون الشيعة عندها؟ ان شيخ الطريقة سمير جعجع يراهم بوضوح.

يمتدح حزب الله لأنه صاحب أيديولوجيا. ويأسف لأن الشيعة، والحزب اللهيين خصوصاً، هم موضوعياً أقرب الى المسيحيين، والى القواتيين تحديداً، من أهل السنة والجماعة. هم أقرب الى المسيحيين <<اجتماعياً>> ناهيك عن <<صوفية الأئمة>>. هذا ما جاء على لسان سمير جعجع في <<كلام الناس>>. طبعاً، يقتضي أن يُطلع عَلَم من أعلام الشيعة الدكتور جعجع أنه ليس عند الامامية، وخصوصاً عند أئمتهم الأطهار من تصوّف، فالتصوف مسلك سنيّ صرف. يبدو أن تجربة 11 عاماً من القراءة الفلسفية والدينية في المحبسة، لم تعينه لجهة التمييز بين التصوّف والعرفان، ولا تسمية واحد من الأئمة المعصومين. ولم يدر كاتب السطور حتى الساعة لماذا طلب مارسيل غانم من سمير جعجع تسمية أحد الأئمة، مع أن العجب كل العجب تركّز في اشارة سمير جعجع الى أنه يترك الإجابة لكتاب يعدّه في هذا الخصوص، إذا سمحت تعقيدات الأزمة اللبنانية بترك الوقت المناسب للانصراف الى هذا العمل، الذي سيتركّز على إظهار جدلية <<الله والتاريخ>> (قد يجد مفكرو اليسار الديموقراطي عند حليفهم سمير جعجع ما يطوّرون به فكرهم ما بعد الماركسي، فاللينينية متخلّفة، أما الجعجعية...).

بيد أن تصوّف سمير جعجع لم يكن الا شكلاً من أشكال احجام <<قوى 14 آذار>> عن الأخذ بالظواهر والمعطيات والأعداد السوسيولوجية، التي تصب كلها في خانة ضرب المعادلة بين الأكثرية البرلمانية والأكثرية الديموغرافية لمجرد أن أكثرية الشيعة وأكثرية المسيحيين خارج الأكثرية البرلمانية. الشكل الآخر من الحرب على علم الاجتماع تمثل في ذاك النوع الرديء من <<الفانتازيا>> الذي قرّرت <<قوى 14 آذار>> إتحاف اللبنانيين به مساء 6 شباط، يوم جاءت بنظرية مؤامرة المردة والجراجمة مع تنظيم القاعدة والأصوليين الأردنيين، وهي نظرية أقلّ ما يُقال فيها إنها تحاكي مجانية اتهام سليمان فرنجية للقوات اللبنانية بالتواطؤ مع غزوة التباريس.

أليس من الفانتازيا الحديث عن معسكرات للقاعدة في وادي القراقير، والطلب من مجلس الأمن وحلف شمال الأطلسي التدخل ضد سليمان فرنجية؟! لقد أحسن رئيس الوزراء ووزير الداخلية بالوكالة أخذ المسافة المناسبة عن هذا الدرك. الا أن المشكلة ليست مع هذه الفانتازيا فقط. يبتدئ الزغل بمجرد الحديث عن تظاهرة طاهرة وغاندية خرج من صلبها المندسون كالعفاريت، عفاريت <<القوات الخاصة>>، وحدات الكوماندوس على الطريقة البعثية. فبالدرجة الأولى ينبغي تحديد فعلة الاندساس: هل المندّس هو كذلك لأنه أضرم النار في مبنى الممثلية الدانماركية أم لأنه رشق كنيسة مار مارون بالحجارة؟ ثم إن كان صحيحاً أن المندسين يقتصرون على المئات، في حين أن غير المندسين كانوا ثلاثين ألفاً، وان كان صحيحاً بأن العشرات حاولوا تهدئة الجموع المسعورة، في حين أن الآلاف آثرت الفرجة على ما عداها، فإنه من الصعب إنكار ما فجرّه التصميم على المواجهة عند <<الطليعة المندسة>> من شعور <<جهادي تخريبي>> شمل الآلاف من غير <<المندسين>> أساساً. وقد أظهرت أجهزة التلفزة مهاجمين <<يحللون>> إحراق الممثلية الدنماركية و<<يحرّمون>> رشق الكنيسة بالحجارة على اعتبار أن الكنائس كانت أمراً مباحاً في <<دولة الإسلام>> كما قال أحد هؤلاء. يمكن القول إنّ الإجماع الأكثري بين المتظاهرين استقرّ على النحو التالي: تحليل الاعتداء على الممثلية، ففي ذلك واجب شرعي، وتحريم الاعتداء على الكنيسة وأرزاق أهل الذمة، ففي ذلك مانع شرعي.

وما إن باشرت قوى الأمن حماية الممثلية حتى خرج المخزون التكفيري الذي سكن الآلاف من المتظاهرين: إذا كانت الدولة قمعية (أي لا تسمح لهم بمعاقبة الدنمارك) فهي بالتالي دولة كافرة، فلا يعقل أن يكون المسيحيون في إطارها معاهدين.

لا يعني ذلك أن المخابرات السورية بريئة مما جرى ويجري في لبنان. على العكس من ذلك، هي متورطة حتى التلف، الا أنها متورطة في تحريك ظواهر من لحم ودم، لا تهبط عنوة من الفضاء الخارجي. بعض هذه الظواهر مجرد بيادق، وبعضها الآخر قد يصل الى درجة حليف مع المخابرات السورية.

واذا كان تخصص العماد عون بمحاسبة <<المقصّرين>> دون <<المنفّذين>> في كل مرّة، فلا يمكن أن يتمثل البديل في الاهتمام <<بالحقيقة>> دون قشورها، وإهمال الجانب الاجرائي تماماً. هل نحن أمام <<حقيقة>> لا يريد المعنيون بها مباشرة أن يدفعوا درهماً واحداً من أجلها، كي لا نقول إنهم يريدون التوفيق بين أرباحهم وبينها، في حين أنها حقيقة ينبغي أن يدفع الناس العاديون ضريبتها يومياً، دون أن يسألوا كيف ولماذا؟

ينبغي تعريف <<المندسّ>> وليس فقط التلهي بتبيان <<جنسيته>> وإن كان دمه فلسطينياً أو سورياً أو بدوياً أو وادي خالدياً (إمارة اندورا الحدودية). ولأجل تعريف <<المندسّ>> ينبغي العودة بأرشيفنا إلى التظاهرات السابقة وشعارات مذهبية رخيصة من نوع <<عمر! عمر!>> أو تهتف بحياة الزرقاوي وصدّام ضد بشّار (في حين أن سوء البعث السوري لم يصل أبداً الى سوء البعث العراقي). أين يبدأ فعل الاندساس وأن ينتهي؟