الشرق الأوسط
سنة كاملة مرت على الجريمة الزلزال التي اودت بحياة رئيس حكومة لبنان الاسبق رفيق الحريري والنائب باسل فليحان ورفاقهما. وعلى رغم ان هذه الجريمة احدثت تحولا كبيرا في واقع لبنان والمنطقة نظرا الى الرمز الذي يمثله الحريري وحجمه على الساحة اللبنانية والعربية والدولية، فإن التحقيقات التي لم تتوقف على مدى 365 يوما لم تحسم بشكل قاطع ونهائي بعد هوية من خطط لهذه الجريمة وحرض عليها وسهل لها ونفذها وعمل على تغطية المجرمين أمنيا وسياسيا.
كل المعطيات والمعلومات والادلة الحسية وغير الحسية التي توصلت لها لجنة التحقيق الدولية المشكلة بموجب قرار مجلس الأمن الرقم 1595 والتي ترأسها القاضي الالماني ديتليف ميليس على مدى ستة اشهر، تشير الى تورط النظام الأمني السوري ـ اللبناني في هذه الجريمة الخطيرة، وخصوصا ان ميليس اعلن في حديث لـ «الشرق الاوسط» خلال ديسمبر (كانون الاول) الماضي انه «على يقين» ومقتنع تماما بأن السلطات السورية هي التي اغتالت الحريري بمساعدة رموز الأمن اللبناني المعينين في مواقعهم بقرار سوري، وبالتالي كان من الطبيعي مسارعة بيروت الى توقيف الجنرالات الاربعة اللبنانيين كمشتبه فيهم بالاشتراك في التخطيط للجريمة وتنفيذها، أي المدير العام السابق للأمن العام، اللواء الركن جميل السيد، المدير العام للأمن الداخلي، اللواء علي الحاج، مدير الاستخبارات السابق في الجيش، العميد ريمون عازار، وقائد لواء الحرس الجمهوري العميد مصطفى حمدان الذي كان الى حين توقيفه ظل الرئيس اللبناني اميل لحود الذي لا يزال يدافع عن حمدان ويرفض تعيين بديل عنه في قيادة الحرس الجمهوري، رغم توقيفه ورغم الشبهات الكبيرة حول دوره في الجريمة. كذلك تم توقيف تسعة اشخاص آخرين للاشتباه بدور محتمل لهم في اغتيال الحريري، بينهم المسؤولان في «جمعية المشاريع الخيرية الاسلامية» (الاحباش) الاخوان احمد ومحمود عبد العال، وهما شقيقا المقدم في الحرس الجمهوري وليد عبد العال.

والى حين جلاء الصورة التي سيرسو عليها التحقيق الدولي، فان التحقيقات ومنذ وقوع الجريمة مرت بمراحل صعبة. وكان التحقيق اللبناني عرضة للتشكيك ومثار ريبة لدى «تيار المستقبل» والقوى السياسية المتحالفة معه والتي صبت جام غضبها على الاجهزة الأمنية التي كانت بأمرة الجنرالات الاربعة الموقوفين وعلى القضاء الذي كان على رأسه حينذاك وزير العدل والنائب العام التمييزي السابق القاضي عدنان عضوم. ولم توفر الاتهامات التي اطلقتها القوى السياسية المعارضة آنذاك الاطراف المذكورة اعلاه وما سمته النظام الأمني اللبناني ـ السوري المشترك حتى تجلت ذروة الغضب في «ثورة» 14 مارس (اذار) 2005.

كيف بدأ التحقيق واين تعثر؟ على اثر وقوع الانفجار هرعت القوى الأمنية وسيارات الاطفاء والاسعاف وجرى انتشال الجثث والجرحى الذين نقلوا الى المستشفيات في بيروت. اما اجراءات التحقيق في الجريمة فكانت في حينها اقل من الاجراءات التي تتخذ بديهياً في حادث اقل اهمية بكثير. فقد حضر بعد نصف ساعة قاضي التحقيق العسكري الاول رشيد مزهر الذي وضع يده على التحقيق في حضور مفوض الحكومة لدى المحكمة العسكرية القاضي جان فهد. ومنذ اللحظات الاولى لم يكن القاضي مزهر راضياً عن الوضع الذي وصفه بـ «الفوضى».

بعد اقل من ساعتين على الانفجار وبينما اللبنانيون في حال غليان وغضب، اذا بالفلسطيني احمد ابو عدس يظهر في شريط فيديو مسجل على شاشة محطة «الجزيرة» ليتبنى عملية الاغتيال باسم جماعة «النصرة والجهاد في بلاد الشام». وسارعت القوى السياسية المعارضة الى اعتبار هذا الشريط «عدة شغل» الجهاز الرسمي المنظم الذي ارتكب الجريمة. لكن، وعلى اثر بث شريط ابو عدس، اعلن الرئيس الفرنسي جاك شيراك رفضه لهذه المزاعم واكد ان فرنسا تطالب بلجنة تحقيق دولية لكشف الجناة وتقديمهم الى العدالة. وبعد ساعتين على الجريمة انعقد مجلس الدفاع الاعلى في القصر الجمهوري برئاسة الرئيس لحود حيث دعا لحالة طوارىء لضبط الأمن ولجم اي فلتان او ردات فعل تحصل على الارض. وسجل على الاثر انتشار كثيف للجيش اللبناني في محيط مراكز المخابرات السورية في لبنان. وما لبث ان انعقد مجلس الوزراء وقرر احالة الجريمة على المجلس العدلي باعتبارها جريمة ارهابية تستهدف الدولة وأمنها. لكن المفارقة كانت بقرار مجهول المصدر قضى بسحب سيارات موكب الحريري من موقع الانفجار مع سيارة «ب. ام» مجهولة المالك. لم تمض ساعات على الحادثة حتى التأم مجلس الأمن الذي وصف الجريمة بانها عمل ارهابي منظم. وقرر ارسال بعثة تقصي حقائق برئاسة قائد الشرطة الايرلندية بيتر فيتزجيرالد، الذي حضر الى لبنان على رأس وفد أمني يساعده خبراء في علم الادلة الجنائية والمتفجرات والحمض النووي واقتفاء الاثر. وبالتزامن مع عمل فيتزجيرالد، كان التحقيق اللبناني يسير في اتجاه واحد هو احمد ابو عدس الذي لم يعثر على اي اثر له في مسرح الجريمة. ما بين هذا وذاك طرأ عنصر جديد اعتبره وزير العدل السابق عدنان عضوم تطوراً هاماً في التحقيق، اذ تحدث عن سفر ستة اشخاص ملتحين عبر مطار بيروت الدولي متوجهين الى استراليا بعد ساعتين من اغتيال الحريري ويعتقد ان لديهم ارتباطاً بأبو عدس، وان معلومات وصلته من الانتربول الاسترالي تفيد انه عثر على اثر لمادة الـ «تي.ان.تي» على مقاعد الطائرة بعد نزولهم وان هؤلاء يخضعون للتحقيق. وكان عضوم في صدد عقد مؤتمر صحافي في مكتبه في وزارة العدل ليزف نبأ توقيف هؤلاء كمتهمين. الا ان الجواب الاسترالي جاء سريعاً ومفاده ان هؤلاء لا علاقة لهم بالجريمة ولا اثر لمادة الـ «تي. ان. تي» على ملابسهم، كما قيل، وانهم كانوا عائدين من اداء فريضة الحج، لكنهم عرجوا على بلدتهم، المنية، في شمال لبنان لزيارة اقاربهم.

وازاء هذه المعمعة والارباك في التحقيق اللبناني واثر صولات وجولات بيتر فيتزجيرالد في موقع الجريمة وجمع معلوماته من سياسيين وأمنيين لبنانيين، صدر تقريره المنتظر والذي سلمه الى الامين العام للامم المتحدة كوفي انان بعد 22 يوماً من بدء مهمته. وفيه يتحدث عن نقص هائل في الخبرات والمعدات اللبنانية للتحقيق في مثل هذه الجريمة. كما تحدث عن اخفاء بعض الادلة والعبث بمسرح الجريمة. وتناول في تقريره الظروف السياسية التي سبقت الجريمة والحملة المنظمة التي تعرض لها الحريري من الأمن السوري واللبناني، مركزا على عدم فصل هذا الجو عن الجريمة. ورجح فيتزجيرالد ان يكون الانفجار حصل فوق الارض بواسطة سيارة محملة بالمتفجرات وان زنة العبوة تقارب الالف كيلوغرام من المواد الشديدة الانفجار والملتهبة. وخلص الى التشكيك في تحقيق السلطات اللبنانية. واوصى بانشاء لجنة تحقيق دولية مستقلة لهذه الغاية لكشف الحقيقة. في السابع من ابريل (نيسان) انعقد مجلس الأمن ولحظ توصيات لجنة فيتزجيرالد والاستنتاجات التي توصل اليها. وقرر انشاء لجنة تحقيق دولية مستقلة لمساعدة التحقيق اللبناني في كل جوانبه وتحديد المرتكبين والداعمين والمنظمين والمتواطئين بموجب القرار 1595. وطالب كل الدول بالتعاون المطلق مع اللجنة. وقد عُيّن القاضي الالماني ديتليف ميليس رئيساً للجنة واختار بدوره فريق عمله وانتقل مع اعضائه الى لبنان. وفي 13 يونيو (حزيران) 2005 وقع ميليس مذكرة تفاهم مع وزارة العدل اللبنانية وباشر عمله في 16 منه. وطالب السلطات الللبنانية والشعب اللبناني بمساعدة اللجنة واطلاعها على اي معلومات قد تفيد التحقيق. وبعد حوالي شهر ونصف شهر قدم ميليس تقريراً اجرائياً الى مجلس الأمن اطلعه فيه على آخر ما توصل اليه التحقيق وابلغه بوجود مشتبه فيه واحد في العملية ظل اسمه غير معلن الى ان ادلى ميليس بحديث الى مجلة فرنسية واعلن فيه ان قائد الحرس الجمهوري مصطفى حمدان هو المشتبه فيه في الجريمة، وانه جرت مداهمة مكتبه في القصر الجمهوري ومنزله ومنزل شقيقه ماجد حمدان.

في 30 اغسطس (آب) 2005 استفاق اللبنانيون على خبر توقيف الجنرالات الاربعة جميل السيد وعلي الحاج وريمون عازار، الذين جرت مداهمة منازلهم واقتيادهم الى مقر اللجنة في المونتيفردي، فيما جرى الاتصال بالقصر الجمهوري واستدعي العميد مصطفى حمدان الذي حضر طوعاً. وبعد استجوابهم لاكثر من عشر ساعات، احالهم ميليس الى القضاء اللبناني واوصى بتوقيفهم بشكل دائم كمشتبه فيهم في التخطيط للجريمة بالاتفاق في ما بينهم. كما جرت مداهمة منزل النائب السابق ناصر قنديل. ومثل امام اللجنة التي استجوبته كمشتبه فيه ايضاً، لكنها لم تطلب توقيفه. وعندها ادعى النائب العام التمييزي سعيد ميرزا على الجنرالات الاربعة بجرم ارتكاب جرائم القتل ومحاولة القتل عبر مواد متفجرة وملتهبة، واحالهم الى المحقق العدلي الياس عيد الذي استجوبهم واصدر مذكرات توقيف وجاهية بحقهم.

اما بشأن التحقيق مع الجانب السوري فإن ميليس كان بعث برسالة الى السلطات السورية يطلب فيها مثول عدد من الضباط لسماعهم كشهود. لكن الرد السوري جاء بالرفض لان «السيادة السورية» لا تسمح باستجواب ضباط امام قاض اجنبي. ثم اتبع هذا الرد بكتاب سوري يطلب من ميليس ارسال اسئلة خطية ليجيب عنها الضباط المعنيون بالامر. فقوبل ذلك برفض ميليس الذي حاول انجاز تحقيقه قبل نهاية اكتوبر (تشرين الاول) الماضي. وعندها استدرك السوريون وابدوا رغبة في استضافته. وبالفعل انتقل ميليس مع بعض فريقه الى فندق «مونتي روزا» القريب من الحدود اللبنانية واستجوب عدداً من الضباط السوريين عرف منهم العميد رستم غزالي (رئيس جهاز الأمن والاستطلاع في لبنان سابقاً) ووزير الداخلية السوري غازي كنعان الذي قيل انه انتحر في مكتبه في دمشق بعد استجوابه من قبل اللجنة بعشرة ايام. في 21 اكتوبر قدم ميليس تقريره الى كوفي انان وفيه يتحدث بالتفصيل عن دور الأمن السوري واللبناني باغتيال الحريري، ويتحدث عن اجتماعات عقدت في لبنان وفي القصر الجمهوري في دمشق تحضيراً للاغتيال. كما يتهم وزير الخارجية السوري فاروق الشرع ونائبه وليد المعلم بتضليل التحقيق من خلال افادات غير صحيحة تماما. فضلاً عن اتصالات بين الاخوين محمود واحمد عبد العال بضباط سوريين واتصال محمود بهاتف رئيس الجمهورية اثر اغتيال الحريري. وقد تم توقيف الاخوين عبد العال بعد صدور التقرير.

يوم الثلاثاء في 25 اكتوبر التأم مجلس الأمن وناقش تقرير ميليس واصدر القرار 1636 الذي يلزم سورية بالتعاون مع لجنة ميليس تحت طائلة اتخاذ عقوبات بحقها، ويطالب السلطات السورية بأن تمتثل لطلبات القاضي الالماني وتسمح باستجواب اي سوري مشتبه به في الزمان والمكان اللذين يختارهما. لكن هذا التحقيق اصطدم بعقبات اذ رفضت القيادة السورية ان يمثل ضباطها امام ميليس في «المونتيفردي»، لكن الاتفاق تم على استجواب خمسة ضباط سوريين في مقر الامم المتحدة في فيينا. وهم: العمداء رستم غزالي، عبد الكريم عباس، ظافر اليوسف، سميح القشعمي وجامع جامع. بعد اقل من اسبوعين على تقرير ميليس الاول، كانت دمشق تحضر لقنبلة فجرتها وتمثلت هذه القنبلة في تنظيم مؤتمر صحافي في دمشق للسوري حسام طاهر حسام الذي كان يطلق عليه تسمية «الشاهد المقنّع» والذي استند ميليس الى افادته في مفاصل عديدة في تقريره، حيث ادعى حسام بأنه تعرض للترغيب والترهيب من وزارة الداخلية اللبنانية وسياسيين لبنانيين وعرضت عليه ملايين الدولارات للادلاء بافادات تدين سورية في اغتيال الحريري وتراجع عن كل الاعترافات المدونة في محاضر لجنة التحقيق الدولية. هذه القنبلة فجرتها سورية بوجه ميليس غداة موافقتها على استجواب الضباط الخمسة في فيينا بعد مفاوضات ووساطات نشطت على خط دمشق والرياض والقاهرة. وقبل ان تكتمل فرحة المبتهجين بمؤتمر حسام الذي ادعى في مؤتمر ثان ان خطيبته ثروت الحجيري واهلها يتعرضون للضغوط والترهيب، استدعى المحقق العدلي الياس عيد خطيبة حسام التي نفت تعرضها لاي تهديد واكدت ما سبق واعترف به خطيبها. وافادت انه قبل حصول اغتيال الحريري بدقائق كانت تتنزه مع حسام في منطقة عين المريسة، فتلقى الاخير اتصالا على هاتفه الجوال، حيث طلب منه المتصل ان يغادر المكان فورا لان الانفجار الزلزال سيقع بعد دقائق في مكان وجوده. عندها اخذ بيدها واسرعا يركضان باتجاه منطقة الحمراء. ولدى وصولهما الى محلة «طلعة جنبلاط» دوى الانفجار وعندها ابلغها حسام بأن العميد جامع جامع هو الذي اتصل به وانه انقذ حياتهما.

ظل قرار التوقيف عالقا بانتظار تعيين خليفة ميليس الى ان وقع الاختيار على القاضي البلجيكي سيرج براميرتز الذي كلفه الامين العام للامم المتحدة كوفي انان المهمة رسميا في الحادي عشر من الشهر الماضي. وقبل وصول براميرتز الى بيروت ظهر شاهد سوري جديد يدعى ميشال جرجورة في شريط مسجل على احد التلفزيونات اللبنانية وادعى تعرضه للترغيب والترهيب من سياسيين في «تيار المستقبل» والحزب التقدمي الاشتراكي للايقاع بالسوريين في التحقيق. وتبين ان حزب «المردة» الذي يرأسه النائب والوزير السابق سليمان فرنجية هو الذي اعد الشريط وصور الشاهد السوري. الا ان القضاء اللبناني سارع الى توقيف الشاهد بتهمة تضليل التحقيق قبل ان يتمكن من الفرار الى خارج لبنان.