د. أنيس مصطفى القاسم (الأزمنة العربية)

قررتم خوض الانتخابات للمجلس التشريعي ومنحكم شعبنا في الداخل ثقةً وأغلبيةً تحسدكم عليها الاحزاب في كل نظام ديموقراطي. كانت الانتخابات نزيهة وشريفة ونظيفة رفعت رأس الفلسطينيين في كل مكان، ويستحق عليها الرئيس الفلسطيني أبو مازن وقوات الأمن الفلسطينية والفصائل والمنظمات والمرشحون والناخبون ولجنة الانتخابات المركزية التحية والتقدير والاكبار، وصارت نموذجا نتمني له أن يسود في عالمنا العربي كله. لقد تم ذلك بالرغم من كل العراقيل التي وضعها الاحتلال في الطريق وبالرغم من محاولات التأثير عليها من الخارج، فقد رفض شعبنا جميع هذه التدخلات وعبر عن ارادته الحرة بالرغبة في التغيير. وهذا وضع طبيعي في كل انتخابات ديموقراطية حرة. يحدث هذا في امريكا وبريطانيا والمانيا وفرنسا واليابان والهند، ويحل راديكاليون محل محافظين ومحافظون محل راديكاليين، وتحل برامج سياسية واقتصادية محل برامج سابقة. هذه هي طبيعة الديموقراطية وقاعدة تداول السلطة. وتحترم الدول ارادة الشعوب وتتعامل مع الوضع الجديد.

وفي التعامل مع الوضع الجديد تحسب كل دولة حساباتها، وهذا أمر طبيعي. والمشكلة التي تواجهها حماس هي أساسا أنها كانت تتبني أسلوب المقاومة المسلحة للتخلص من الاحتلال. والحق في مقاومة الاحتلال حق مشروع مارسته كل الشعوب التي ابتليت بالاحتلال، والاعتراض الذي وجهه الكثيرون هو أن العمليات كانت توجه في كثير من الاحيان ضد المدنيين وليس ضد قوات الاحتلال ومرافقه الاقتصادية والعسكرية أو بنيته التحتية. والمجتمع الدولي وكذلك الرأي العام لا يقبل الاعتداء علي المدنيين في حياتهم اليومية. وكان من أهم مزايا الانتفاضة الاولي أنها كانت تستهدف الاحتلال في حد ذاته فأظهرت للعالم كله مدي التعسف الاسرائيلي، وكان لذلك أثره البالغ في اهتزاز صورة اسرائيل أمام العالم وهي تواجه الحجارةَ والمظاهراتِ بالدبابات وتكسير العظام والرصاص الحي.

واذن فلكل نوع من أنواع المقاومة وقته وشروطه. ولا عيب في تغيير اسلوب واتباع أسلوب آخر. والمفاوضات الواعية الملتزمة بالمبادئ والشرعية هي أسلوب من أساليب المقاومة وفض النزاعات، ولا ضير في اتباع هذا الاسلوب. وفي الحالة الفلسطينية الراهنة، فان الذي يؤخذ علي المفاوضات ليس التفاوض في حد ذاته وانما غياب المنهج الفلسطيني من جهة وعدم التزام الطرف الاسرائيلي من جهة أخري بما يتفق عليه. وهاتان مشكلتان يجب العامل معهما.

أما من حيث المنهج فان المفاوض الفلسطيني عندما دخل في مفاوضات أوسلو فانه اكتفي بالاعتراف بمنظمة التحرير في مقابل الاعتراف بحق اسرائيل في الوجود. وكان هذا خطأ فادحا، اذ كان المطلوب هو الاعتراف بحقوق الشعب الفلسطيني وليس بمنظمته فقط. هذا خطأ ترتبت عليه أخطاء أخري في الصياغة الموضوعية لجهل المفاوض الفلسطيني بالقانون وعدم استعانته علي الوجه الصحيح بخبراء في القانون. ومن بين هذه الاخطاء اعتبار الاراضي الفلسطينية أرضا متنازعا عليها. ومعني هذا أن حق الفلسطينيين في أرضهم ووطنهم وسيادتهم فيه هي قضايا محل نزاع بموافقة الطرف الفلسطيني. هذا وضع يجب أن يصحح. وجاءت فتوي محكمة العدل الدولية في قضية الجدار وموافقة الجمعية العامة للامم المتحدة بأغلبية ساحقة ضمت، جميع دول الاتحاد الاوروبي، علي تلك الفتوي لتضع الأمور في نصابها. وبموجب هذه الفتوي فان جميع الاراضي الفلسطينية، بما فيها القدس، هي اراض محتلة يجب أن تتخلي عنها اسرائيل بكاملها، كما أن جميع المستوطنات تعتبر قانونا مستوطنات غير شرعية ويجب تفكيكها. هذا فضلا عن أن الجدار غير شرعي وتجب ازالته وتعويض الفلسطينيين الذين تضرروا منه.

وبهذا فان محكمة العدل الدولية قد حددت ما هي الشرعية الدولية في هذه المرحلة وما يجب علي الاطراف القيام به التزاما بهذه الشرعية. هذا هو الموقف التفاوضي الذي يستند الي سيادة القانون في العلاقات الدولية، فضلا عن قرارات مجلس الأمن والجمعية العامة للامم المتحدة، بما فيها القرار الخاص بعودة اللاجئين وتعويضهم، وقرار بطلان ضم القدس وتغيير بنيتها السكانية. لم يكن مطروحا علي المحكمة شرعية قيام اسرائيل في حد ذاتها أو شرعية قرار التقسيم لتقول رأيها فيهما. واذن وفي اطار هذه الفتوي فان الموقف الفلسطيني سليم كل السلامة في المطالبة بتنفيذ ما جاء في الفتوي، كما أن الجمعية العامة للامم المتحدة طالبت الدول الاعضاء باحترامها والالتزام بها.

واذن في مقابل مطالبة اسرائيل الاعتراف بحقها في الوجود يجب أن تُطالب بالاعتراف بحقوق الشعب الفلسطيني التي أقرتها محكمة العدل الدولية وقرارات مجلس الأمن والجمعية العامة للامم المتحدة. فاذا اعترفت اسرائيل بذلك يكون التفاوض فقط حول اجراءات التنفيذ، وليس علي الحقوق الفلسطينية، واذا لم تعترف فان اللوم لا يقع علي حماس وانما علي اسرائيل. هذا موقف تستطيع حماس أن تتخذه وتضمن الي جانبها جبهة فلسطينية متراصة في الداخل والخارج وجبهة دولية تستطيع التحرك داخلها من موقع صلب لا تطرف فيه ولا مغالاة، بل هو موقف معترف به دوليا ويحرج أية دولة تحاول الالتفاف عليه أو التخلي عنه. وبناء علي التجربة السابقة في المفاوضات فان اسلوب المراحل أثبت فشله لأن اسرائيل تتمسك بأوهي الاسباب لعدم الوفاء بالتزاماتها وللاستمرار في تنفيذ برامجها، ويجب أن يكون واضحا أن الاعتراف بها رهين بالتزامها الكامل بالوفاء بدون مماطلة أو تلاعب، فاذا توقفت عن الوفاء يصبح الطرف الفلسطيني هو الآخر غير ملزم بأي جانب من جوانب الاتفاق. ولقد كان من أخطاء الموقف الفلسطيني الاسراع في فك الحصار العربي والاسلامي والافريقي عن اسرائيل استنادا الي أن مبادرات من هذا القبيل ستطمئن اسرائيل. وقد ثبت عمليا أن هذا الأمل في اسرائيل كان في غير محله، فقد استمرت اسرائيل في سياساتها في جميع الاتجاهات ولم تعدل عن موقف واحد من مواقفها. ولذا يجب اعادة الحصار اذا لم تعدل عن سياساتها وتبدأ في تنفيذ التزاماتها تنفيذا سليما. القاعدة المستقرة هي أن الاتفاقيات يجب أن تنفذ وفقا لمقتضيات حسن النية والثقة التي يجب أن تسود في ذلك، وقد جرت اسرائيل علي خلاف هذه القاعدة في تعهداتها مع الفلسطينيين. فالاستيطان تواصل، والاستيلاء علي الاراضي ومصادر المياه لم يتوقف والحواجز والاعتقالات في تزايد وكذلك الاغتيالات وتهويد القدس والخليل وبقية الضفة الغربية. هذه أفعال لا تدل علي حسن نية في التعاقد ولا تولد الثقة بين المتعاقدين، واذا كانت أمريكا والمانيا واللجنة الرباعية والاتحاد الاوروبي حرصاء علي عملية السلام فيجب علي اسرائيل ان توقف اعتداءاتها هذه وتزيل ما ارتكبته من مخالفات للقانون الدولي. المفاوضات يجب الا تكون سبيلا لتمكين اسرائيل من خلق وقائع متواصلة غير شرعية ثم التمسك بها علي أساس أنه لا يمكن العودة الي الوراء.

طبعا هذا موقف يتطلب جهدا كبيرا في الاعلان عنه وتثبيته في الاذهان هو وأسانيده، ويتطلب اتصالات علي نطاق واسع أولا مع الدول العربية والاسلامية ثم مع الدول الاخري وخاصة الاتحاد الاوروبي والصين وروسيا من منطلق أنها جميعها وافقت علي فتوي محكمة العدل الدولية. السلطة الوطنية الفلسطينية لم تستفد كما يجب من هذه الفتوي ولم تتحرك دوليا بنشاط جدي متواصل لتأمين العمل بها، وكذلك فان الأنظمة العربية والاسلامية وضعت هذه الفتوي في أدراجها ولربما لم تقرأها.

معني هذا أن المنهج والاسلوب يجب أن يتغيرا، ويجب أن تكون هناك مبادرات مدروسة لا مرتجلة، كما هو الحال الآن، للتعامل مع جميع القضايا، ولدي السلطة الفلسطينية مجموعة من القانونيين الشباب الذين هم في غاية الكفاءة ويجب الاستماع لهم بجدية، بدلا من اهمالهم كما هو حاصل الآن.

الي جانب هذا الموقف المبدئي لخوض المفاوضات، فانه يتعين علي حماس، وهي أول حزب اسلامي يتولي الحكم في الوطن العربي، أن تطمئن جميع المواطنين والمواطنات علي حقوقهم وحرياتهم انطلاقا من مبادئ اسلامية ثابتة ومن بينها أنه لا اكراه في الدين وأن الدين لله والوطن للجميع، فلا تتبني مواقف فقهية ظنية لا تتماشي مع العصر، وهي محل اختلاف علي أي حال، فتخلق بذلك مشاكل اجتماعية تحيد بها عن الهدف الاساسي وهو حشد كل طاقات الشعب وامكانياته للقضاء علي الاحتلال. نحن نعلم أن حماس ليست طالبان وليست من التنظيمات التي لا تعرف من الشريعة سوي المحظورات والمزيد منها، وخاصة فيما يتعلق بالمرأة، وتتجاهل تماما سماحة الشريعة ووسطيتها وحرصها علي أن يكون المجتمع متراصا لا تفرق الفروع والاجتهادات بين أبنائه. والاسلام أول من أرسي وطبق قواعد التعايش السلمي بين الاديان والمجتمعات المختلفة، وتاريخه شاهد علي ذلك، ولولا هذه القواعد لَفُرِضَ الاسلام علي الجميع فرضا أيام الفتوحات الاسلامية ولما بقي في الديار التي دخلها المسلمون انسان لا يدين بالاسلام. يجب الا نمنح القدسية لاجتهادات الفقهاء وكأنها قطعية أو جزء من كتاب الله. الاسلام أكبر من هذا. وما أروع مجتمع يكون من بين ابنائه أمثال المطران كبوشي والمطران حنا عطا الله والمطران رياح ابو العسل والمطارنة الفلسطينيين الآخرين، وما أروع مدينة كبيت لحم فيها مهد السيد المسيح وغالية سكانها من مسلمين انتخبوا مجلسا بلديا غالبيته من أهلنا المسيحيين. هذه كلها مفاخر لشعبنا وديننا السمح، ولا يجوز التفريط بها.

الاصلاح مطلوب، غير أن الاصلاح المتعجل الذي لا تمليه المصلحة العامة بعيدا عن الحزبية قد يأتي بنتيجة عكسية. أما التخلص من الفساد والمفسدين ومحاسبتهم فشيء آخر ولا تجوز المماطلة فيه. ان انتشار الفساد والمحسوبية واستغلال النفوذ قد أساء كثيرا لسمعة الشعب الفلسطيني ونظرة الناس اليه، فضلا عن الاضرار العميقة التي ترتبت عليه. ولذا لا بد من المحاسبة والمساءلة وابعاد الفاسدين والمفسدين عن مواقع السلطة. والفساد كان من أهم أسباب امتناع العديد من الفلسطينيين عن استثمار أموالهم في فلسطين أو المساهمة بفكرهم وجهدهم في عملية البناء. ولا يمكن حشد طاقات شعبنا في الداخل والخارج وكسب احترام العالم وتأييده مع استمرار الفساد وانتهاك الحريات. لقد كانت سياسة الفساد المتعمد أساءة كبري للشعب الفلسطيني وقضيته، فصار كل من يريد دعمنا يخشي علي مساعداته أن تذهب الي جيوب قلة احتكرت السلطة والنفوذ، كما أصبح الفساد حجة يحتج بها من عليه أن يساعد ولكنه يريد التخلص من هذا الواجب. الشفافية في كل شيء وخاصة في النواحي المالية مطلب ملح وسياسة يجب التمسك بها في جميع الاوقات والظروف. ولا يجوز لوزير المالية عندما يستجوبه المجلس التشريعي عن بند من بنود المصروفات أن يقول اسألوا الرئيس، اذ ماذا يفعل معاليه؟ الاموال التي نهبت والاراضي العامة التي تم الاستيلاء عليها والمرافق التي احتكرها البعض يجب أن تسترد، كائنا من كان الفاعل.

وقد أعلنت حماس أنها تنوي اعادة تفعيل منظمة التحرير الفلسطينية، وهذا أمر في غاية الأهمية. فالمنظمة هي الممثل الشرعي للشعب الفلسطيني، وقد جري تغافل وجودها ووجود مؤسساتها بشكل تدريجي منذ قيام السلطة الوطنية في الداخل، هذا فضلا عن أن مؤسسات المنظمة، كاللجنة التنفيذية والصندوق القومي والمجلس المركزي، لم يجر تجديد الثقة بها أو اعادة تشكيلها طوال سنوات طويلة، الأمر الذي أدي الي تغييب حقيقي للمنظمة عن الساحة، وابعاد صوت فلسطينيي الخارج عن المشاركة في القرار. المجلس الوطني الفلسطيني، بتشكيلته السابقة والتي ضمت حوالي خمسمائة عضو، قد انفرط عقده أو كاد، واللجنة التنفيذية توفي من أعضائها من توفي واستقال واستبعد من استقال أو أبعد، ولم تعد صالحة لقيادة المسيرة. ولا بد من التذكير بأن المجلس التشريعي والسلطة الوطنية لا يملكان حق اتخاذ القرار النهائي وانما يقع هذا القرار في دائرة اختصاص المجلس الوطني الفلسطيني. ان اعادة الحياة للمنظمة ضرورة وطنية لا يجوز اهمالها أو التقليل من أهميتها.

ومن أخطر بؤر الفساد هذه المزايا الخيالية التي نص عليها القانون لأعضاء المجلس التشريعي نفسه والتي هي في حد ذاتها مصدر للفساد وللافساد. فهل يعقل في مجتمع ستون في المائة من أبنائه يعيشون دون خط الفقر أن يتمتع نوابه بمرتبات شهرية قيمتها ثلاثة آلاف دولار، وبتقاعد يتوارثه الابناء عن الآباء يقارب ذلك، وسيارات معفاة من الرسوم الجمركية، يتولي المجلس التشريعي تأمينها وصيانتها وأن يتمتع الاعضاء وزوجاتهم بجوازات سفر دبلوماسية دائمة تمنحهم علي مدي العمر مزايا لا مبرر لها؟ (2) إن هذا العبء المالي تنوء به ميزانية الدول الغنية الكبري، فما بالك بميزانية تعتمد علي المعونات؟ لتكن للاعضاء مكافآت معقولة ولينفق الباقي في اصلاح أحوال المحتاجين من أبناء هذا الشعب، وهم كثيرون، بدلا من أن يذهب لاثراء جماعة يفترض فيهم أنهم رشحوا انفسهم للقيام بخدمة عامة للمجتمع لا من أجل الاثراء. بهذا يستقيم الوضع النيابي، وتنتفي المصلحة الخاصة، ويصبح من يتقدم للانتخاب لا يتقدم من أجل مزايا تحقق له الثراء في مجتمع فقير، وانما من أجل الخدمة