د. يحيى العريضي

"حطموا عظامهم" كان ذلك توجيها مباشرا من "المرحوم" إسحاق رابين رئيس وزراء إسرائيل السابق وقد نفذه جنود الاحتلال الإسرائيلي تنفيذا حرفيا كاملا على عدد من الشبان الفلسطينيين العزل الذين كانوا يقاومون الاحتلال بالحجارة والإرادة الوطنيةالحرة.

شاهد العالم مذهولا في حينه على شاشات التلفزيون جنود الاحتلال المدججين بالسلاح يهشمون عظام اذرع الفلسطينيين على صخور ذات الأرض التي ينادي آؤلائك الشبان باستعادة سيادتها من الغزاة الذين لا يمتون لقيمها وأخلاقها بصلة.

وها هو المنظر البشع يتكرر ثانية على ارض عربية أخرى هي ارض العراق التي يناضل أبناؤها من اجل حريتها واستعادة سيادتها التي أودى بها الاحتلال. الجريمة هذه المرة يقترفها جنود بريطانيون وضحاياهم هم الأولاد العراقيين العزل الذين رفعوا شعارات مشروعة تطالب بإنهاء احتلال القوات الأجنبية الغازية وعودة السيادة لوطنهم.

ما أشبه فضاعات الأمس بفضاعات اليوم، وكم تنطبق رزايا جنود رابين التي تتواصل بصورة مستمرة مع ما قام به الجنود البريطانيون التي نتمنى أن تكون ممارسات "طارئة". وكم ينطبق ذلك أيضا على ممارسات مماثلة في دول ما يعرف بـ "العالم الثالث"

كم تمنيت أن اكتب عن نوع آخر من المتطابقات في عالمنا الذي يزخر بالمتطابقات. كنت أتمنى أن اكتب عن شيء متشابه ينطلق من أركان الأرض يحمي أبناءها ويعلى من شان سكانها كاختراع يحمي كوكبنا من كوارثه المزمنة ويضعنا في مأمن من أهوال الطبيعة ومفاجئات الأقدار.

تلك أمنيات ما زالت في مصاف الخيال، وهكذا أجد نفسي مظطرا مرة أخرى للكتابة عن المنغصات المكررة المتشابهة التي تزيدنا ألما وغصة رغم كل ما حولنا من وفرة المعطيات.

حكومات الغرب "المتحضرة" تنفي حصول مثل هذه الممارسات على أرضها التي تنعم "بالديمقراطية وسلطة الصحافة" ولهذا فان هذه الحكومات عندما تجد نفسها راغبة بسحق عظام البشر من "المتمردين والخطرين" فما عليها إلا أن تأخذهم إلى بلدان أخرى كي تمارس عليهم ما حرمته على أرضها من هذه الممارسات. لذلك فان سحق العظام في "غوانتنامو" و "أبو غريب" هي عملية لا تخضع للشروط الإنسانية ومبادئ الديمقراطية التي تبشر بها هذه الحكومات.

وإذا دققنا في حقيقة الأمر نجد انهم في الواقع لا يحمون القيم التي يتحدثون عنها إنما هم يحمون النظم التي تدعيها، لذلك فان أطراف النظام غالبا ما تتكتم على تلك الخروقات حتى يتسنى لاحد الأفراد فضحها وكشفها على الملأ، فعند ذلك تأخذ الأمور مدياتها المعروفة .

هذا ما حصل في فضائح مختلفة عبر عقود من "الديمقراطية الزاهرة والصحافة الحرة" والأمثال على ذلك كثيرة.

فلو بقيت المعلومات التي تعلقت بفضيحة "ووترغيت" محصورة بين أفراد الحزب الجمهوري لما انتشرت أنباؤها ولا زكمت رائحتها الأنوف . أن تسرب أخبارها إلى فرد من "الديمقراطيين" هو الذي نشرها على الملأ وأدت بتداعياتها المعروفة.

وما تمارسه السلطات في عالمنا الثالث لا يشغل بال أحد. أما لان السلطات في هذا الجزء من العالم اكثر دهاء في تنفيذ فضاعاتها أو إنها غير آبهة بما توصف به فهي اقل نفاقا واكثر انسجاما مع ذاتها في هذا المضمار. الفرق بينها وبين الحكومات الغربية إنها، أي حكومات العالم الثالث، لا تدعي الديمقراطية ولا تحاسب من يتجاوز على مفاهيمها. ومع ذلك فالنتيجة متشابهة. فمن يرتكب جريمته بمبضع الجراح لا يقل إجراما عن الذي يرتكبها بساطور القصاب.

إنها نظرية اقتراف الجريمة بيد تحميها القفازات التي تبرئها من نتائجها وما يتلوها من تبعات. فالاحتلال جاء إلى العراق باسم إنقاذ العالم من أسلحة الدمار الشامل وفضائح "أبو غريب" و "العامرية" وغيرها كلها حصلت تحت غطاء نشر الديمقراطية وغلفتها يافطات المحبة وتعزيز العدالة ونشر حقوق الإنسان

لاشك إن المواطن البريطاني أو الأمريكي لا يتمنى أن تحصل مثل هذه الممارسات، وقد شاهدنا جموعهم التي خرجت إلى الشوارع منددة بالحرب وما قد ينتج عنها من الماسي والفضاعات. لكن إرادة هذه الجموع عادة ما تسلب من خلال ورقة الاقتراع. هذه الورقة التي صممت لحماية نظام راسخ يعمل على حماية نفسه ولا يمثل حجة المنطق أو محصلة الارادات.

إن الممارسات هي ذات الممارسات، فما تمارسه الحكومات الغربية تمارسه حكومات العالم الثالث، لكن ما يحصل هناك يحمل فجاجة المواجهة ولا يختفي خلف شاشات الادعاءات. فهل تصح مفاضلة في تشابه الأحوال.