رفع سعد الحريري، الزعيم الوريث لوالده المؤسس لـ"تيار المستقبل"، عشية الذكرى السنوية الاولى لاغتياله شعار "لبنان اولاً". ثم تحول هذا الشعار في اليوم التالي في ساحة الشهداء في 14 شباط الى شعار رئيسي لاستعراض القوة الشعبي الذي اظهر مرة اخرى ضخامة امكانات الآلة التنظيمية لآل الحريري المسؤولين عن تعبئة الجسم الاساسي في ذلك الحشد الاستثنائي.

... في العراق ومع سقوط تمثال صدام حسين في 9 نيسان 2003، كان لسان حال القوى السياسية العراقية التي كانت تستعد، من الخارج والداخل لبدء عملية بناء جديد للدولة العراقية، هو "العراق أولاً"... ربما كانت قلة من السياسيين العراقيين تبنت حرفياً الشعار، الا ان اهم مقولة تعبوية سياسية بين القوى السياسية العراقية، وخصوصاً في الخارج في المرحلة الاولى، واكبت التغيير العسكري الاميركي للنظام العراقي الصدامي، كانت تلك القائمة على فكرة ان المرحلة الجديدة هي مرحلة بناء نظام سياسي معني بالعراق فقط داخل حدوده، بحيث ينبغي ان تنتهي افكار التطلع "خارج الحدود"... التي كان المقصود منها، ولا زال، الفترة السابقة الطويلة التي حملتها الايديولوجيا "العروبية" بمعنى الامتداد الخارجي الذي صار مرادفاً للعدوانية العراقية ضد المحيط او بعضه. صحيح ان "التطلع للخارج" كان دائماً جزءاً من تركيب الثقافة السياسية التي حملتها الدولة العراقية – كجزء من ثقافة النظام السياسي العربي – منذ تأسيسها عام 1921 تحت لواء الهاشميين قادة ثقافة عروبة النصف الاول من القرن العشرين، الا ان التطلع الى الخارج بمعناه العدواني بدأ عملياً بعد سقوط النظام الهاشمي عام 1958 وبلغ ذروته مع غزو صدام حسين للكويت الذي تلا الحرب مع ايران.

في وادي النيل يرتفع شعار "مصر اولاً" بين الحين والآخر، ليس بالضرورة بالصيغة الحرفية نفسها، بل بصيغ مختلفة، الا انها جميعاً تعني نوعاً من التوافق الواسع في مرحلة ما بعد الصلح المصري – الاسرائيلي واسترداد سيناء على اولوية التطلع داخل الحدود المصرية، وهو ما سيتحول مع الوقت وتحديداً في المرحلة الراهنة، وبصورة اخص مع بدايات القرن الحادي والعشرين، الى توجه النخب المصرية نحو مشروع "دمقرطة" النظام السياسي، بمعزل عن اشكال التمايز في ما بينها حول مفهوم هذه "الدَمَقْرطة"، وبمعزل ايضاً عن نوع من "السوداوية" في مزاج هذه النخب السياسي الذي يظهر بين الحين والآخر في رداء راديكالية سياسية "عروبية" الا انها "عروبية" دفاعية وينتج عن احساس بتراجع دور مصر – كما حصل مثلاً بعد اتفاق "اوسلو" عام 1993 وظهور مشروع "الشرق أوسطية" – اكثر مما هي تعبير عن رغبة بـ"عروبية هجومية"...

في سوريا، من الملفت ملاحظة، ان واحدة من الادبيات الاكثر اثارة للتأمل التي تظهر في بيانات قوى المعارضة من الداخل، والاكثر بروزاًً هي دعوة هذه القوى النظام السياسي الى تطبيق سياسة التطلع داخل الحدود اي "سوريا اولاً" بما هي سياسة التخلي عن "ايديولوجيا" الامتداد الخارجي في المحيط، التي طبعت المرحلة السابقة.

ها نحن اذن امام حالة ممكن ان تتعمم تحت شعارات "لبنان اولاً" و"مصر اولاً" و"سوريا اولاً" و"العراق اولاً"، ناهيك طبعاً عن "فلسطين اولاً" التي تطبقها الحركة الوطنية الفلسطينية عملياً سواء تحت قيادة "فتح" سابقاً او مع صعود حركة "حماس" في التسعينات الى فوزها الانتخابي الآن. فـ"حماس" نفسها وباقتناع حتى قوى لا زالت تنظر اليها بارتياب بل برفض مثل الولايات المتحدة الاميركية، لا تنخرط في مشروع تيار اسلامي راديكالي اوسع، وتحصر رؤيتها السياسية وممارستها العملية في اطار الصراع الفلسطيني – الاسرائيلي. هذه نقطة لا يشكك بها حتى الاميركيون، ولهذا فهم يميزونها عن "القاعدة" وان كان الخلاف لازال على اشده معها في رفض عملياتها العسكرية داخل اسرائيل. اما في الاردن، فـ"الاردنة" ليست جديدة قياساً باعتبارات خاصة جداً بالكيان الاردني الذي يعاني قلقاً وجودياً بالاساس بسبب الضغط الديموغرافي المتولد عن موجات التهجير الاسرائيلي للفلسطينيين والمترافق مع احساس دائم لدى النخبة "الشرق أردنية" بغموض المخططات الاسرائيلية حيال المملكة الاردنية (على اي حال هذا موضوع مختلف).

المهم اننا في حقبة "الكيان... اولاً". ولنلاحظ هنا ان المشروع الأميركي الذي فتح ابواب التغيير "على مصراعيها" في المنطقة منذ سقوط بغداد، واحدث حالة "ثورية" حتى لو لم تكن حالة بنّاءة دائما، بل احيانا فوضوية، هذا المشروع الاميركي يبدو، بمزيج من تقاطع المصالح مع نخب التغيير المحلية، حاضنا لـ"وطنيات كيانية" مبنية على اساس نظام ديموقراطي. فـ"الوطنية اللبنانية" اطلقها من عقالها الكامن القرار 1559 (ومنحها زخما دراماتيكيا اغتيال رفيق الحريري) هي التي يريد سعد الحريري امس الاول وقد انتقل من مرحلة الوراثة الى مرحلة التكريس السياسي الدولي – العربي – المحلي انطلاقا من دخوله البيت الابيض، ومرورا – بل تعميدا له – في بحر جماهيري من اغلبية اسلامية سنية. (وحضور درزي بارز، ونسبة ما من الحضور المسيحي ومشاركة جادة من قطاعات نخبوية شيعية)...

هي التي يريد سعد الحريري تكثيفها في شعار "لبنان اولا"... الذي يعني ربما في احد وجوهه "تطمينا" لمرجعيات عربية بارزة بأن الدولة اللبنانية في صيغتها ما بعد الخروج العسكري السوري ليست في وارد الدخول في معركة الاسقاط السياسي للنظام في دمشق، لكن كانت المفارقة امس الاول ان الحشد الذي ارادت قوته التنظيمية الاولى جعله تحت شعار "لبنان اولا" لم ينضبط تماما في اطاره، بل شهد بشكل تلقائي اندفاعا خارج هذا الاطار يمكن فهم اسبابه المتعددة ومنها الطابع "الدفاعي" الذي يضع انفسهم فيه بعض خطباء ساحة الشهداء ضد ما يعتبرونه الهجوم السوري.

الا ان المسألة الجوهرية التي تثيرها الصيغة الجديدة لـ"وطنيات المنطقة" تحت شعار "الكيان... اولا" في العراق ولبنان ومصر والاردن... هي مدى امكانية تكريس عملي واضح وبدون التباسات لهذا الشعار في كل بلد معني؟ هل بالامكان فعلا ممارسة "الكيان... اولا" في ظل تداخل القضايا الاقليمية واهمها استمرار الصراع العربي – الاسرائيلي؟ فما معنى مثلا "فلسطين اولا" على المستوى العملي حين يكون بالامكان من ضمن هذا الشعار ضم حالة المخيمات الفلسطينية في لبنان... فيما هذه الحالة خارجة عمليا على منطق سيادة الدولة اللبنانية على اراضيها... ويعتبرها الفلسطينيون جزءا من معطيات "فلسطين اولا"!... او في مثال آخر من امثلة عديدة، كيف يمكن التمييز في العلاقات اللبنانية – السورية على سبيل الافتراض في المستقبل بين مصالح الدولة ومصالح النظام في كل من "لبنان اولا" و"سوريا اولا"؟

... سألت مرة خبيرا اميركياً في احد مراكز الابحاث المعنية بقضايا الامن الاستراتيجي، حول نوع الجيش العراقي الجديد الذي يخطط الاميركيون لتأسيسه؟ كان جواب هذا الخبير انه سيكون "الجيش الحامل لأسلحة قادرة على ضبط الامن الداخلي دون ان تكون هذه الاسلحة قادرة على التدخل في اية دولة في المحيط". وحين سألته، هل سيكون هذا الجيش الجديد مؤهلا للدفاع عن حدود العراق في حالة اعتداء الخارج عليه؟ اجاب مبتسما: "إنك تضع يدك هنا على جوهر المشكلة: فكيف سنجعله جيشا قادرا على الدفاع عن حدود الدولة – وهذا حقه – دون ان يكون قادرا في الوقت نفسه على التدخل خارج الحدود... المعادلة صعبة ان لم تكن مستحيلة"... وكان عليَّ ان استنتج ان الخيار الاميركي في الوضع العراقي من وجهة نظر هذا الخبير هو احد امرين: إما قيام قوة ضبط امن داخلي فعالة وبالتالي لن يكون ممكنا تسميتها جيشاً بالمعنى التقليدي او "إلغاء" فعلي للجيش العراقي وجعله معتمدا على منظومة دفاعية غربية او اميركية؟!

هذه إحدى مشكلات "الكيان... اولا" على المستوى الامني، الا ان نظرة ايجابية جادة لمعضلة خطرة من هذا النوع في منطقة تضم ترسانة عسكرية من اكبر ترسانات العالم هي اسرائيل، تستوجب ولادة نظام دولي قادر على حل النزاعات الاقليمية... بقوة القانون الدولي!

حدث هذا بعد الـ 1559... في نطاق العلاقات اللبنانية – السورية. ولكن كيف يمكن ان يحصل في نطاق الصراع الفلسطيني – الاسرائيلي الذي يقدم نموذجا معاكسا: دعم اميركي لتفوق عسكري اسرائيلي... باحتلال مفتوح في الضفة الغربية... والجولان؟

انها بعض تأملات... متفائلة هنا، متشائمة هناك... بمناسبة "الكيان اولا"...