تظاهرة "تحالف 14 آذار" في 14 شباط الجاري لمناسبة مرور سنة على اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري كانت لها ايجابيات ثلاث في رأي عدد من متابعي الاوضاع العامة في لبنان المعروفين بالموضوعية. الايجابية الاولى، هي نجاح منظمي التظاهرة في حشد المشاركين فيها بحيث قارب عددهم عدد الذين شاركوا العام الماضي اولا في جنازة الشهيد. وثانياً، في مهرجان الوفاء له والتصميم على متابعة نهجه وسياسته الذي حصل بعد ذلك بنحو اربعة اسابيع. علما ان النجاح المذكور كان تحقيقه مشكوكا فيه من جهات كثيرة في مقدمهم "تحالف 8 آذار" بكل مكوناته. والدافع الى الشك كان انفصال "التيار الوطني الحر" عن "تحالف 14 آذار" وانتهاجه في البداية خطا وسطا بين هذا التحالف و"تحالف 8 آذار" ثم تحوله قبل مدة قصيرة الى التعاون مع ابرز مكونات "8 آذار" واقواها اي "حزب الله".

والدافع اليه ايضا كان الاعتقاد ان الشعبية الكاسحة للتيار عند المسيحيين هي التي صنعت مجد 14 آذار 2005 وان غيابها عن 14 شباط 2006 سيظهر اثره الكبير بكل تأكيد. والايجابية الثانية، هي نجاح المشاركين في التظاهرة المسلمين والمسيحيين في تجاوز سلبيات استغلال تظاهرة استنكار الرسوم الكاريكاتورية المسيئة للرسول العربي الكريم في احدى الصحف الدانماركية التي جرت قبل ذلك بايام معدودة لاعادة شبح الفتنة بل الحرب بين المسيحيين والمسلمين في لبنان من خلال تعمد مجموعات منظمة اجتياح منطقة الاشرفية المسيحية بزواريبها واحيائها والاعتداء على البيوت والممتلكات فيها وكذلك على عدد من دور العبادة. وما كان ذلك ممكنا لولا اعادة تصويب اهداف التظاهرة — الذكرى التي هي استكمال استعادة الوطن سيادته واستقلاله والمحافظة على العيش المشترك وفق الدستور الجديد المنبثق من اتفاق الطائف والاصرار على معرفة الحقيقة في اغتيال الرئيس الحريري وعلى تحقيق العدالة. اما الايجابية الثالثة فكانت اقدام المسيحيين على المشاركة وعلى نحو ملحوظ في التظاهرة الاخيرة الامر الذي اعاد الى "تحالف 14 آذار" صورته الوطنية اي غير الفئوية واظهر ان المسيحيين يتوزعون وان بنسب متفاوتة على تيارات سياسية متنافسة وربما متناقضة وهذا امر حتمي في لبنان الذي اعتاد اثناء الحرب وبعد انتهائها العسكري لا السياسي تجمع الطوائف والمذاهب في مواجهة بعضها بعض والذي لن تستقيم فيه الحياة السياسية الديموقراطية بل الحياة الوطنية الا اذا نشأت تيارات سياسية عابرة للطوائف والمذاهب وان جزئيا في المرحلة الاولى.

هل كانت لتظاهرة 14 الجاري في ذكرى استشهاد الرئيس الحريري سلبيات في مقابل الايجابيات المفصلة اعلاه؟

كانت لها سلبيتان في رأي المتابعين الموضوعيين انفسهم. الاولى، تناول عدد من الخطباء وليس كلهم في المناسبة الموضوع السوري في لبنان او المشكلة السورية في لبنان وله بطريقة فيها الكثير من الانفعال والانقياد وراء العواطف وحتى وراء الغرائز. ومن شأن طريقة كهذه "ارضاء" الجمهور المحتشد طبعا علما انه لا يحتاج الى "ارضاء" كهذا لانه اساسا معبأ ضد الاسلوب الذي مارسته سوريا في لبنان اثناء وصايتها عليه وضد استمرار تدخلها فيه وباكثر من وسيلة بعد خروجها قسرا في 26 نيسان الماضي. لكن من شأنها ايضا ابقاء جو التوتر بل مضاعفاته الامر الذي يمكن ان يزيد من عدم الاستقرار الامني في البلاد. اما السلبية الثانية، فهي تعاطي عدد من الخطباء بشيء من الاستفزاز العلني مع "حزب الله" ومقاومته والضمني مع الطائفة الشيعية التي صار الحزب الممثل الاكبر لها على اكثر من صعيد. ومن شأن ذلك تعقيد امور الحوار الذي يفترض ان رئيس مجلس النواب نبيه بري يعد له، وشحن الاجواء الطائفية والمذهبية المتصاعدة اساسا. كما ان من شأنه جعل الساحة اللبنانية جاهزة لكل انواع الاعمال المخلة بالامن والمضاعفة لعدم الاستقرار التي يمكن ان تقوم بها جهات لبنانية واخرى غير لبنانية متنوعة تعتبر نفسها مستهدفة في لبنان وبواسطته.

طبعا، لا ترمي الاشارة الى السلبيتين الى الدفاع عن تاريخ الممارسة السورية السلبية في البلاد سواء اثناء الحروب او بعد انتهائها. فذلك لا يستطيع احد ان ينجح فيه لان كل شيء مكشوف في لبنان. ولا ترمي ايضا الى تبني موقف "حزب الله" سواء من موضوع سلاح المقاومة او من موضوع سوريا واحتمال تورطها في اغتيال الحريري، علما ان تبنّياً كهذا ليس سهلا نظرا الى التداخل الواسع بين المعلن والمضمر عند "الحزب" وحلفائه المحليين والاقليميين كما عند الجهات الاخرى. وهي لا ترمي اخيرا الى محاولة احداث انقسامات في صفوف "تحالف 14 آذار". اولا، لان ذلك مستحيل بسبب التاريخ الطويل للتراكمات الداخلية والاقليمية. وثانيا، لان هذا التحالف قام بالكثير من الانجازات ولأن المطلوب منه ترسيخها ثم القيام بالمزيد منها، بل ترمي الاشارة الى السلبيتين، والى لفت "الاذاريين" الى ضرورة رص الصفوف والاستمرار في المواقف بل التشدد فيها ولكن بحكمة وعقلانية ومن دون خوف. ذلك ان الانفصال كما الاستفزاز قد يجعلان صاحبهما عرضة للتجاوب اللاإرادي مع مخططات الاخصام او حتى الاعداء وقد يعمقان الفرز الطائفي والمذهبي الحاد حاليا. ومن شأن ذلك الحؤول دون النجاح في اكمال مسيرة التغيير التي توقفت في منتصفها.

هل يتلافى "الاذاريون" السلبيتين المشار اليهما في تحركهم الجديد الذي بدأوه قبل يومين والرامي اولا الى دفع رئيس الجمهورية اميل لحود الى التنحي؟

يجب ذلك علما ان التكهن به يبقى صعبا جدا. فالرئيس لحود لم يعد يصلح لقيادة لبنان في رأي معظم اللبنانيين حتى الذين منهم على خلاف مع "تحالف 14 آذار" او على تفاهم مع جهات اقليمية معينة. ولا بد من تنحيه. لكن استعمال الشارع لن يحقق هذه الغاية في رأي كثيرين. والمفارقة بين الوضع اليوم وما جرى في 1952 عندما فرض الشارع المضرب على الرئيس بشاره الخوري الاستقالة قبل اكمال ولايته المجددة لا يجوز. فيومها لم يكن الانقسام الطائفي والمذهبي بالحدة الراهنة. وعلى العكس من ذلك كانت الحياة السياسية تقوم اجمالا على تيارات نيابية متنوعة في طوائف المنتمين اليها ومذاهبهم، ولم يكن اللبنانيون مسلحين، ولم تكن طوائفهم ومذاهبهم تحولت قوميات متعادية، ولم تكن هناك مشكلة مع سوريا بل مواجهة، كما ان سوريا لم تكن في لبنان، ولم تكن ايران في لبنان، ولم يكن الوجود الفلسطيني الذي لا يزال مسلحاً اليوم، مسلحاً في حينه، ولم تكن المواجهات الاقليمية – الدولية بالحدة التي نراها حاليا، ولم تكن اسرائيل صارت دولة عظمى في المنطقة قادرة على الفعل ورد الفعل في كل الدول العربية بل في لبنان اضعفها. وحدهما الحوار والتفاهم يمكن ان يخرجا لحود من بعبدا ولتفتح الطريق امام قيام الجمهورية الحرة والسيدة والمستقلة والديموقراطية والعربية التي فشلت سوريا في اقامتها على مدى 15 سنة او التي لم تشأ اقامتها. ونجاح التحاور والتشاور يقتضي التخلي عن الباطنية ومحاولة حسم قضايا عمرها مئات السنين في لبنان على ارضه وعلى حسابه وستستمر مئات السنين منها الانقسام المذهبي بين المسلمين ومنها الحروب الصليبية التي جعلت الشك في وطنية المسيحيين العرب وقوميتهم مقيما عند المسلمين وجاهزا كي يطفو على السطح عند الحاجة.