د. فيصل القاسم

ليس هناك أمة في التاريخ تجتمع روحياً على قلب رجل واحد كالأمة الإسلامية بالرغم من الخلافات بين المذاهب، ويكاد منظر ملايين الحجاج في بيت الله الحرام وهم يطوفون ويسجدون دفعة واحدة يلخص هذه الوحدة الإسلامية منقطعة النظير. إنه منظر نادر بكل المقاييس حيث يتجمع المسلمون من كل أصقاع الأرض في طقس وحدوي توحدي عملاق عز نظيره ماضياً وحاضراً. وكم كنت أتساءل وأنا محدق في شاشة التلفزيون أتأمل هذا المشهد الإيماني الهائل: لماذا لم يفكر أحد يوماً باستغلال هذا التوحد الإيماني الطبيعي لأغراض سياسية أو اقتصادية أو ثقافية؟ كيف لهذه الأمة المتحدة قلباً وقالباً أن تكون "ملطشة" لباقي الأمم التي تفتقد لأبسط مقومات الوحدة والتلاقي الروحي؟ هل يعقل أن هذه الجموع الغفيرة المتناغمة في الروح والحركة غدت رمزاً للاضطهاد؟ كيف تسمح هذه الحشود المهولة المجبولة على ديدن واحد أن تـُهان وتـُضطهد في كل بقاع الأرض على أيدي "اللي يسوى وما يسواش"؟ ألم يقل الإمام الخميني ذات مرة:"لو قام كل مسلم بإلقاء كأس من الماء على إسرائيل لأغرقوها"؟

لكن المشكلة ليست في إلقاء كأس الماء بل في أن يسمح القائمون على شؤون المسلمين في العالم لشعوبهم بأن يفكروا بتعبئة مائة كأس دفعة واحدة فما بالك مليار ونصف. فشعار الأنظمة الحاكمة في البلدان الإسلامية هو التفرق والفرقة ولا شيء غيرها، ولا أدري إذا كانوا سيفكرون يوماً بإلغاء مناسك الحج كونها تعبر عن وحدة إسلامية طبيعية "رهيبة". ولو لم يكن الحج أحد أركان الإسلام لربما حاول الحكام ومن يوجههم قصارى جهدهم إلغاءه بحجة التجمهر للتخطيط لأعمال إرهابية. وقد سمعت نكتة في موسم الحج الأخير أن الرئيس الأمريكي جورج بوش وجه تحذيراً للحجاج يقول فيه:"إن أي اعتداء على إبليس بالجمرات يعتبر اعتداء شخصياً عليّ". والنكتة ليست طبعاً في المقارنة بين بوش وإبليس بل في التلميح الشيطاني إلى إمكانية التدخل في يوم من الأيام لمنع الحج أو ضبطه خاصة وأن المحافظين الجدد في أمريكا يحضرون هذه الأيام لإطلاق مصطلح إعلامي جديد يسمونه "إسلاموفاشيزم" أي الفاشية الإسلامية! أي أن المسلمين سيكونون في منزلتي النازيين الألمان والفاشيين الطليان حسب الرؤية الأمريكية الجديدة. ومن يدري، فقد ألغوا الجهاد من قبل في مؤتمر منظمة المؤتمر الإسلامي في داكار. وقد غدا الجهاد نوعاً من الإرهاب بمباركة القادة المسلمين المنتسبين إلى المنظمة. فلا تتفاجئوا يوماً إذا فكروا بتقنين الحج أو ربما إلغائه! فلن يعدموا الحجج والذرائع.

ومما قد يسّرع في عملية القضاء على مظاهر الوحدة الإسلامية الهبة العارمة الأخيرة من جاكرتا إلى دمشق للاحتجاج على الرسوم الدنماركية المسيئة للرسول الكريم صلى الله عليه وسلم. لاحظوا أنني لم أقل من جاكرتا إلى مكة لأنه لم يكن مسموحاً للسعوديين بتنظيم مظاهرات احتجاجية على الإهانات الاسكندنافية! لقد أشعرت المظاهرات الإسلامية العالمية قوى الهيمنة في العالم بخطورة الوحدة الإسلامية في يوم من الأيام على الأقل شعبياً وروحياً، وهو أمر حذر منه قبل سنوات المفكر الأمريكي المعروف صامويل هنتنغتون في أطروحته الشهيرة "صراع الحضارات". لا شك أن الغرب أصيب بصدمة كبرى وهو يرى ردود الفعل الإسلامية الهائلة على الإساءات الدنماركية، ولا شك أيضاً أنه اكتشف التعاضد الإسلامي الخطير على الأقل إيمانياًً، وهذا سيجعل المخططين الغربيين يعيدون حساباتهم إن لم يتأهبوا لوضع خطط جديدة لمواجهة هذا الاكتشاف الرهيب.

لقد كانت جدتي أطال الله في عمرها تقول لنا ونحن صغار ما معناه: "إن المسلمين رغم تشتتهم سيتحدون يوماً وسيكونون قادرين وقتها على الانتصار على أعدائهم وتحرير أراضيهم المحتلة". ولا أدري إذا كان تنبؤ جدتي سيتحقق فعلاً على ضوء هذا الانتفاض الإسلامي الشامل، خاصة وأن التنبؤات الأخرى التي كان يرويها لنا الأجداد قد تحققت تماماً، فقد كانوا يقولون لنا بالحرف الواحد:" إن لبنان سيخرب ثم يعمر وإن الخراب سيحل ببلاد ما بين النهرين" وهما أمران قد حصلا فعلاً. وهل هناك خراب أبشع من هذا الخراب الذي حل بالعراق؟ المهم ألا يتحقق تنبؤ جدتي على نحو كارثي كما حصل للبنان والعراق كأن ينقلب هذا التوحد الإسلامي في وجه المسيئين للعقيدة إلى مصيبة. ولا أعتقد أن الغرب يعدم الوسيلة لتحويل هذا التوحد إلى هباء منثور. لكن مهما يحدث فإن هناك الآن حقيقة راسخة وهي أن هناك عملاقاً خامداً قابلاً للنهوض في أي لحظة وأن العالم الإسلامي سهل التوحيد إذا ما أريد استغلاله لأغراض سياسية معينة، وهو بحاجة فقط إلى الـ activation بلغة الالكترونيات أي التفعيل. بعبارة أخرى فإن الحساب موجود ولا يحتاج إلا للتنشيط والاستخدام فقط.

ولا أعتقد أن الأنظمة الغربية كانت وحدها المندهشة والمرعوبة من انتفاضة الشارع الإسلامي بل شاركتها رعبها الأنظمة الإسلامية نفسها، فباستثناء بعض الدول الإسلامية التي سهلت التظاهرات الشعبية ضد الغرب لأغراض سياسية فقد حاولت بقية الدول أن تمنع المظاهرات لولا أنها استجابت مرغمة لضغط الشارع كما حصل في بلدان عربية كثيرة لم تكن ترغب السلطات بخروج أي مظاهرات احتجاجية. وقد اضطر المفتي في إحدى الدول العربية أن يلحس تصريحات سابقة له بضرورة التروي والهدوء وأن يجاري الشارع الغاضب فيما بعد في هبته ضد الإساءات الاسكندنافية. بعبارة أخرى لقد كانت الشعوب أكثر غيرة وتحمساً ونصرة لعقيدتها وثقافتها بعشرات المرات من حكامها الذين لاذوا بالصمت الرهيب ولم يتجرأوا حتى على مفاتحة الغربيين بالأمر ربما خوفاً من أن يُتهموا بالإرهاب. ومما يثر الاستهجان والاستغراب الشديدين أن رافعي رايات الإسلام "عمـّال على بطـّال" كانوا الأكثر سكوتاً وصمتاً، فلم ينبسوا ببنت شفة ولم يسمحوا بخروج الناس إلى الشوارع للاحتجاج لا بل إن بعض وسائل إعلامهم كانت تداري على الوضع وتحاول تلطيف الأجواء وتقدم المسؤول الدنماركي تلو الآخر كي يبرر موقف بلاده من القضية.

إن مشكلة العالم الإسلامي ليس في شعوبه التائقة إلى التحرير والانعتاق والنهضة والتكتل والتوحد والتضامن والتعاون والتعاضد بل في أنظمته الحاكمة التي لا هم لها سوى فرملة التآخي والتقارب بين الشعوب وتمزيق صفوفها وزرع الفتن والضغائن بينها ومنع أي نوع من التلاقي. ولعل القول الكريم الشهير:"تحسبهم جميعاً و قلوبهم شتى" ينطبق أكثر ما ينطبق على الأنظمة الإسلامية أكثر من أي أنظمة أخرى. ليت لدى الحكام المسلمين عشرة بالمائة فقط من الحمية والتآخي والتضامن والنخوة والكرامة والمروءة والشجاعة والمحبة الموجودة بين الشعوب الإسلامية لكانت أحوال المسلمين أفضل بكثير! لكن أيضاً ليت لدى الشعوب الإسلامية خمسة بالمائة من حماس الاحتجاج ضد الدنماركيين للانتفاض ضد الظلم والطغيان في بلدانهم التي تسومهم سوء العذاب والاضطهاد والإهانات المستدامة وتجعلهم رمزاً للذل والعجز والهوان لما وصلت الأمور إلى هذا الحد ولما تجرأ رسام كاريكاتير صعلوك على تحدي الأمة الإسلامية من إندونيسيا إلى لبنان. جميل أن يهب الإنسان من أجل نصرة دينه لكن جميل أيضاً أن يدافع عن كرامته المهدورة وحقوقه المغدورة وإنسانيته المهانة في وجه الطغاة والأعداء المحليين. فعندما تصون الشعوب الإسلامية حقوقها الوطنية وتلبس مما تنسج وتأكل مما تزرع عندئذ فإن المسيئين سيفكرون ألف مرة قبل أن يسخروا من المسلمين، فما بالك أن يدنسوا أقدس مقدساتهم دون أن يرمش لهم جفن أو أن يتدخلوا في عقائدهم أو يغيروا مناهجهم أو يبطلوا جهادهم أو ربما يفكروا يوماً ما بإلغاء مناسك حجهم بحجة مكافحة الإرهاب وكف الأذى عن إبليس!