اعترفت تركيا العلمانية الحديثة، تركيا اتاتورك بدولة اسرائيل عام 1949 أي بعد سنة من قيامها. وكانت بذلك الدولة المسلمة الوحيدة التي ارتبطت معها بعلاقات ديبلوماسية افسحت في المجال امام تطبيع حقيقي بين الدولتين، الا ان ذلك لم يمنعها من اقامة علاقات جيدة موازية مع الفلسطينيين كانت بدايتها فتح منظمة التحرير الفلسطينية مكتباً لها في أنقرة خريف 1979. علماً انها لم تقدم على هذه الخطوة الا بعد حصول المنظمة على وضع المراقب في الأمم المتحدة عام 1974 بصفتها الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني. لم تتخذ تركيا خلال تلك الفترة وبعدها موقفاً ايديولوجياً من الصراع الفلسطيني – الاسرائيلي، واكتفت بدور الوسيط النزيه ومارسته كلما وجدت فرصة سانحة لذلك. كما دعت الى حل لهذا الصراع على أساس قيام دولتين اسرائيلية وفلسطينية، وأكسبها هذا الموقف او بالأحرى هذه المقاربة احترام الفريقين الاسرائيلي والفلسطيني.

الا ان السياسة التركية المتوازنة اذا جاز التعبير حيال الصراع الفلسطيني – الاسرائيلي بدأت تهتز بعد وصول حزب العدالة والتنمية الاسلامي الى الحكم في تركيا عبر الانتخابات النيابيةـ، ذلك ان حكومة انقرة بدأت مذذاك اظهار مزيد من الدعم للفلسطينيين وخصوصاً لحركة المقاومة الاسلامية "حماس" ومزيد من الانتقاد لأعمال اسرائيل وعملياتها ضد الناشطين الفلسطينيين. وصل هذان الدعم والانتقاد الى الذروة يوم وصف رئيس الحكومة التركية رجب طيب اردوغان عام 2004 اغتيال اسرائيل مؤسس "حماس" الشيخ احمد ياسين بـ"ارهاب الدولة". طبعاً حاول المسؤولون في القدس وانقرة معالجة التوتر المتقطع في العلاقات بينهما أو بالأحرى حاولوا تبديد البرودة التي اعترتها وذلك خلال زيارة اردوغان ووزير خارجيته لاسرائيل عام 2005 والتي أكدا فيها ان بلادهما ستبقى على المسافة نفسها من فريقي الصراع وانها ستستمر في ممارسة دور الوسيط النزيه.

هل تستطيع تركيا الحديثة العلمانية التي يحكمها منذ سنوات حزب اسلامي فاز أكثر من مرة بالغالبية في الانتخابات العامة ان تستمر في صداقتها لاسرائيل وتعاونها العسكري معها وان تحتفظ بدور الوسيط النزيه بينها وبين الفلسطينيين وخصوصاً بعد التطورات الاخيرة التي شهدتها الساحة الفلسطينية وأبرزها على الاطلاق فوز حركة "حماس" الاسلامية الاصولية بالغالبية المطلقة في المجلس التشريعي ثم مبادرة وفد من قيادة هذه الحركة الى زيارة رسمية لأنقرة بحث فيها مع المسؤولين الاتراك في اوضاع المنطقة وخصوصاً الوضعين الفلسطيني والاسرائيلي؟
تقول مصادر ديبلوماسية اميركية متابعة من قرب للاوضاع المتشعبة في تركيا ان حكومة رجب طيب اردوغان تحاول الامساك بالعصا من الوسط كما يقال وذلك كي لا تخسر علاقتها الجيدة مع اسرائيل وكي تساعد الفلسطينيين وخصوصاً "حماس" التي تربطها بها الايديولوجية الدينية المعروفة في هذه المرحلة الدقيقة بل الصعبة. فرئيسها دعا من جهة العالم كله الى احترام خيارات الشعب الفلسطيني. لكنه لفت الى اختلاف اسلوب العمل بين حزبه وحركة "حماس". اذ تمارس الاخيرة العنف سياسة في حين ان الاول يعمل لتحقيق أهدافه بالوسائل السياسية والديبلوماسية. كما انه دعا قيادة "حماس" الى استعمال العقل والتصرف بديموقراطية. لكن هذه المصادر لا تبدو واثقة بنجاح الحزب الاسلامي الحاكم في تركيا في الاستمرار على السياسة او الموقف المفصلين اعلاه. فالعلاقة التركية – الاسرائيلية قد تتأذى كثيراً في حال اعقبت زيارة خالد مشعل ورفاقه انقرة اخيراً خطوات اخرى تظهر نجاحاً وتعاوناً وربما تكاملاً. كما ان العلاقة بين تركيا والمجتمع الدولي وتحديداً الغرب قد تتأذى بدورها. فزيارة مشعل لأنقرة اشارة الى ان الاخيرة بدأت تنتهج سياسة "العمق الاستراتيجي" التي تعني التعاون مع المحيط الجغرافي لتركيا وتنسج العلاقات الجيدة مع العالم الاسلامي وخصوصاً مع الجيران وفي مقدمهم ايران الاسلامية وسوريا. وهي سياسة لا تناقض في رأي المسؤولين الاتراك سياسة التعاون مع الغرب بكل دوله.

علماً ان سياسة "العمق الاستراتيجي" هذه المبررة من الناحية النظرية لا تبدو مبررة من الناحية العملية. فدمشق وطهران عملتا طويلاً ضد انقرة ومصالحها من خلال مساعدة الخلايا الاسلامية والكردية العاملة اما على تغيير النظام او على تفكيك الدولة. لكن على ما يبدو بدأ المسؤولون في العاصمتين السورية والايرانية محاولة جدية لاكتساب الحكومة التركية الاسلامية واجتذابها الى صفهم انطلاقاً من نظرية العمق الاستراتيجي نفسها. والهدف من ذلك تخفيف الضغوط والمصاعب التي بدأت تثقل على كاهل سوريا وايران نتيجة التطورات المعروفة في المنطقة. فسوريا محاطة بعراق يحتله الاميركيون وبأردن موال لاميركا وباسرائيل. وايران محاطة بقواعد عسكرية اميركية كبيرة في العراق وافغانستان واذربيجان وفي القوقاز والخليج. والدولتان تعتقدان ان قيام تعاون أو ربما حلف بينهما وتركيا يخفف العزلة عنهما ويرخي القبضة الاميركية التي تشتد حول عنقيهما. وبذلك تحولان نظرية "العمق الاستراتيجي" التي تطبقها تركيا او تسعى الى تطبيقها الى نظرية "الفرصة الاستراتيجية" التي لا يجوز تفويتها.

الا ان ما تخشاه المصادر الديبلوماسية الاميركية المتابعة من قرب للاوضاع المتشعبة في تركيا هو اولاً نشوب صراع داخل السلطة الحاكمة في تركيا اي حكومة الاسلاميين والعسكر حراس النظام العلماني حول مصالح تركيا وهل تتأمن باستمرار العلاقات مع الغرب واسرائيل وتعميقها أم بالاتجاه صوب الدول العربية والاسلامية حتى التي منها تقف صلبة في مواجهة الغرب الاوروبي والأميركي الذي طالما كانت تركيا العلمانية حليفة له وصديقة منذ تأسيسها. وهو ثانياً تغلب الرغبة في مساعدة الدول الاسلامية وحتى المجموعات الاسلامية المتهمة بالارهاب عند اسلاميي الحكومة التركية، وهي رغبة ناتجة من الثقافة والدين معاً، على الرغبة في الوفاء بالالتزامات التركية حيال الخارج وحيال مصالح الدولة التركية وشعبها. وانطلاقاً من ذلك تعتقد المصادر اياها ان على الولايات المتحدة ان تدرس بعناية السياسة الشرق الاوسطية للحكومة التركية الحالية وذلك قبل اقدامها على تقرير خطوات حقيقية سواء تجاه "حماس" او سوريا او ايران او غيرها.