أصبحت حاجتنا ملحة لأن نعيد النظر في علاقتنا بالعالم ونفكر فيها بوعي ويقظة وتأن وموضوعية, ونقيمها علي أساس واضح مفهوم نرجع دائما إليه, ونلتزمه في تحديد أهدافنا, ورسم خططنا, وضبط سلوكنا, والتمييز بين الصديق والعدو, والقريب والبعيد. بدلا من أن تظل هذه العلاقة كما هي الآن ردودا سلبية علي أفعال الآخرين, واستجابة مكتومة لضغوط القوي الكبري, ونزولا علي حكم الظروف القاهرة.
وهناك من لايرون في السياسة إلا الشطارة والمفاصلة, علي نحو مايفعلون في الأسواق الشعبية, فيبدأون مع البائع من أدني سعر ويبدأ هو من الطرف المقابل, ثم يتركون هم وهو للظروف والأمزجة المتقلبة أن تفرض عليهم وعليه ماتتم به الصفقة. وهذا ماعبر عنه معاوية بن أبي سفيان الذي كان يشبه سياسته بخيط ممدود بينه وبين الناس. إن شدوا هم أرخي, وإن أرخوا شد!
تلك هي سياسة العصور الوسطي التي كان أساسها الخوف والطمع, والرغبة والرهبة, وقد ثار العالم علي الطغاة المستبدين وخرج من العصور الوسطي منذ قرون عدة, ودخل عصورا جديدة تقوم فيها السياسات أو يجب أن تقوم علي أساس من الحق والواجب وتبادل المنفعة والمعاملة بالمثل. ليس فقط لأن هذا الأساس أخلاقي. ولكن أيضا لأنه أساس منطقي مفيد.
ومن الناس من يظن أن إقامة السياسة علي أساس محدد مفهوم عمل من أعمال القوة لاتفكر فيه ولا تستفيد منه إلا الدول الكبري.
غير أن هذه الظنون ليست الا تعودا يمليه علينا الكسل الموروث, واستسلاما لنظم قديمة وتقاليد رثت وبليت فلم تعد تعبر عن وجهات نظرنا, ولم تعد تحفظ لنا مصالحنا, بل هي تبدد قوانا, وتقوم سدا بيننا وبين الاخرين.
ونحن لسنا قوة عسكرية أو اقتصادية كبري, لكننا قوة أخلاقية لا تقاس بمقياس مادي, بل بما لها من تأثير معنوي يفرض علي الاخرين ان يفسحوا لها مكانا في هذا العصر الذي نعيش فيه.
هذا العصر الذي نعيش فيه عصر تواصل وتفاعل, وأمم متحدة, وشرائع ومواثيق دولية, وأسواق مشتركة, وحقوق وواجبات لابد أن يعترف بها الجميع, وأن يحتكم لها الجميع, فإذا نحن لم نعترف بها فكيف نتواصل مع أمم العالم؟ وبأي لغة نخاطب الآخرين؟
والعصر الذي نعيش فيه لايسمح بالعزلة التي كانت تسمح بها العصور الماضية, فلا مجال فيه لسور كسور الصين العظيم, ولا لستار حديدي كالذي بناه الرفيق ستالين حول الأتحاد السوفيتي المنهار. إنه عصر الحدود الممسوحة والسماوات المفتوحة, ففي أي أرض نعتزل العالم, وفي أي سماء نطير؟
نحن لانستطيع أن ننعزل عن الآخرين أو نهرب منهم, ولانستطيع أن ننفرد بالعالم أو نطرد منه غيرنا. ولا نستطيع أن نتخلي عن مكانتا فيه ونرحل الي عالم سواه. وليس أمامنا الا أن نعيش فيه مع الآخرين, وليس أمام الآخرين الا أن يعيشوا معنا فيه.
وهناك من يرفعون في وجه الدعوة للتعايش والتفاعل مع الاخرين شعار التقاليد والخصوصية القومية, لكني لا اري هذه الخصوصية الا في الخطب المنبرية والمظاهر الشكلية. اما في الامور الجوهرية فنحن عالة علي فكر الاخرين, وعلم الاخرين, وانتاج الاخرين.
وأنا أعرف كما يعرف الجميع أن عزلتنا ليست اختيارا خالصا, وليست فعلا إيجابيا, وإنما هي ككل شعار نرفعه الأن, وكل فكرة نعتنقها, وكل سلوك نأتيه رد علي افعال الآخرين.
لقد كنا طوال القرنين الماضيين هدفا لشن الغارات, وانتهاك الحرمات, ونهب الثروات, فكيف تكون حياة مشتركة بين القاتل والقتيل, وبين الضحية والجلاد ؟
والسؤال المطروح ليس محض تساؤل نظري, وإنما هو واقع ماثل يضيق علينا الخناق يوما بعد يوم. فقد كانت فلسطين لاهلها, كما كانت روسيا وبولندا وألمانيا لأهلها. غير ان طائفة من اهل هذه البلاد قررت ان تنشيء لنفسها مستعمرة في فلسطين تحقق لها ما وعدت به في كتابها المقدس, فوافقها العالم الذي لم يعد يعبأ كثيرا بما جاء في الكتب المقدسة, وقسم البلد نصفين, نصف للأجانب المستعمرين, ونصف لأهل البلد الاصليين الذين رفضوا القسمة الظالمة باديء الامر ولهم الحق, ثم اضطروا بعد ان خذلهم العالم لقبولها. فهل قبلها المستعمرون الغاصبون ؟ لا, وإنما يريدون ان ينفردوا وحدهم بفلسطين. يريدون ان ينفردوا وحدهم بالعالم الذي لا نطالب نحن إلا بمكان لنا فيه.
هذا حقنا, نعم ولكن كيف نحصل عليه ؟ هل نحصل عليه بخطف السياح الأجانب كما يفعل بعضهم في اليمن ؟ وإعدام الرهائن كما يفعل بعضهم في العراق؟ وتفجير الانفس في المطاعم والمقاهي والحافلات كما يفعل بعضهم في فلسطين ؟
لا ليس هذا هو السبيل. وإنما نحصل علي حقنا باعتناق مباديء العصر والالتزام بشرائعه واحترام حقوق الانسان التي تضمن لنا ما تضمنه لغيرنا, ولا تكون حقوقا جديرة باسمها اذا ميزت بشرا عن بشر, وتحولت الي امتيازات يتمتع بها فريق ويحرم منها فريق.
ومن العجيب ان تتعارض مصالح خصومنا مع مباديء العصر, لكنهم يتغنون بهذه المباديء ويلهجون بذكرها, كأنها بالنسبة لهم شرط حياة, والأعجب من ذلك ان تتطابق مصالحنا نحن مع مباديء العصر التي تدين العدوان ولا تعترف بما يترتب عليه, لكننا نتبرأ من هذه المباديء كأنها بالنسبة لنا وباء يهدد وجودنا من الاساس. وهكذا تكتمل الدورة, وتنطلي الخدعة, وتصبح أفعالنا ردودا علي افعالهم, كما تصبح ردود أفعالنا مبررات لأفعالهم.
هم يؤمنون بالديمقراطية, لكنهم خصومنا, وإذن فنحن خصوم الديموقراطية!
ونحن لا نؤمن بالديموقراطية, ولا نحترم حقوق الانسان, ونفجر انفسنا في المستعمرات التي انشأوها في بلادنا, من حقهم اذان ان يقتلونا دفاعا عن انفسهم, ويستولوا علي المزيد من اراضينا ليضمنوا امنهم, ويحصنوا مستعمراتهم!
هكذا نساعدهم بردود افعالنا, ونقوي حجتهم, ونحول باطلهم الي حق, أو شر اخف من شر!
والجرائم التي ارتكبها بعضهم باسم الاسلام في نيويورك وواشنطن, وفي لندن ومدريد لم تكن الا ردود افعال مجنونة لا تنتمي للاسلام ولا تنفعه.
ثم هذه الحوادث الاخيرة التي تفجرت احتجاجا علي تلك الرسوم البذيئة التي نشرتها إحدي الصحف الدنماركية وعبرت عن جهل فاضح وتعصب مقيت وتنكر لكل مباديء العصر وقيمه وآدابه, ـ هذه الحوادث ايضا لم تكن الا ردود افعال تجاوز بعضها الحد حتي اتخذها البعض دليلا علي العنف الذي يرمون الاسلام به.
من حقنا ان ندافع عن انفسنا, ونستنكر هذه الرسوم, ونندد بأصحابها, لكن دون ان نعمم التهمة, ونأخذ البريء بالمذنب, ونرتكب في حق الآخرين ما ارتكبه بعضهم في حقنا.
والدنمارك ليست هي الغرب. والذين رسموا هذه الرسوم ونشروها ليسوا كل الدنماركيين. والذي استنكروها كثيرون مسلمين وغير مسلمين وقد آن لنا ان نفكر بدلا من ان ننفعل, ونبادر الي الفعل بدلا من ان نظل ردود افعال.