في لبنان تجمعات حزبية وسياسية كثيرة متفاوتة الحجم والتمثيل الشعبي. لكن التطورات التي حصلت فيه منذ محاولة اغتيال النائب والوزير مروان حماده ثم منذ اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري في 14 شباط 2005 فرضت على هذه التجمعات التكتل رغم كل ما يفرقها ويميزها، الامر الذي كوّن انطباعا لدى الرأي العام اللبناني، وربما في الخارج، ان الحياة السياسية في البلاد بدأت تستقيم من خلال توجهها تدريجا وبفعل الامر الواقع الى شيء شبيه بنظام الحزبين او التيارين. وذلك مفيد من حيث المبدأ اذ يفسح في المجال لاقامة حركة سياسية ناشطة وعابرة للطوائف والمذاهب، وقادرة انطلاقا من ذلك على بدء معالجة جدية للمشكلتين اللتين يعتبرهما الجميع في الداخل والخارج العقبة الكبرى امام قيام وحدة وطنية حقيقية وتاليا امام بناء دولة فعلية، اي الطائفية والمذهبية.

التكتل الاول اطلق عليه اسم "جماعة 8 آذار" وقد استحق اسمه من التظاهرة الحاشدة جدا وغير المسبوقة التي نظمها "حزب الله" في ذلك التاريخ من عام 2005 وفاء لسوريا وللتضحيات التي قدمت، سواء لوقف الحرب اللبنانية او لتحرير الاراضي اللبنانية من الاحتلال الاسرائيلي. ويمكن اطلاق اسم "اذاريي الوفاء" على هؤلاء. وهو يضم من الطائفة الشيعية حركة "امل" و"حزب الله". وهو على علاقة تحالف او تقارب على الاقل مع رئيسين سنيين سابقين للحكومة هما سليم الحص وعمر كرامي وللاثنين "حيثيتان" شعبيتان داخل طائفتهما وكذلك "جمعية المشاريع الخيرية الاسلامية" المعروفة بـ"الاحباش" السنية بدورها. وهو على علاقة تعاون مع "التيار الوطني الحر" بزعامة العماد ميشال عون الذي كان ركنا اساسيا في التكتل المواجه والذي يمثل غالبية مسيحية موصوفة، وكذلك مع النائب والوزير السابق سليمان فرنجيه الذي له تمثيله الشعبي في زغرتا وبعض الاقضية المسيحية الاخرى في الشمال. وهو على علاقة تعاون ايضا مع وارث الزعامة الارسلانية الدرزية الامير طلال، وعلى علاقة تحالف مع عدد من الاحزاب القومية المتحالفة مباشرة مع سوريا.

اما التكتل الثاني فقد اطلق عليه اسم "جماعة 14 آذار" تيمنا بالتظاهرة الشعبية التي فاق عددها عدد المشاركين في تظاهرة 8 آذار والتي انطلقت في ذكرى مرور شهر على اغتيال الرئيس الحريري مطالبة بالاقتصاص من قتلته وباستعادة لبنان سيادته واستقلاله وحريته من نظام امني اقامته سوريا على مدى 15 سنة وبخروج الجيش السوري منه وبالولاء للبنان فقط. ويمكن اطلاق اسم "اذاريي الولاء" على هذا التكتل علما ان ذلك لا يعني في رأينا ان ولاء تكتل 8 آذار او بالاحرى القوى الاساسية فيه ليس للبنان. ويضم هذا التكتل "تيار المستقبل" السني عموما مع عدد من النواب المسيحيين ونائبين شيعيين. كما يضم "اللقاء الديموقراطي" الذي يتزعمه الزعيم الدرزي الابرز وليد جنبلاط ويضم، الى الدروز، عدداً من الشخصيات المسيحية. ويضم ايضا جهات مسيحية لها تمثيلها في الشارع المسيحي وان بنسبة اقل من نسبة تمثيل التيار العوني، في مقدمها "القوات اللبنانية" وحزب الكتائب وعدد من الشخصيات المستقلة التي نشطت سابقا في اطار مجموعة قرنة شهوان.

هل يستطيع فعلا التكتلان المذكوران اعلاه تخطي الحال الطائفية والمذهبية الى حال سياسية قابلة لان تصبح وطنية وان بعد حين؟

هذا الامر ليس سهلا على الاطلاق لسببين مهمين جدا. اولهما، عمق المشاعر الطائفية والمذهبية بكل مراراتها وهواجسها ومخاوفها والتي جعلتها سنوات السلم العسكري والامني لا السلم الاهلي الحقيقي التي عاشها لبنان بعد انتهاء الحروب العسكرية فيه عام 1990 الاساس للنشاط السياسي في البلاد، علما ان من كلفهم المجتمعان العربي والدولي نقل لبنان من الحرب الى السلم الفعلي اي سوريا لم ينفذوا مهمتهم ولاسباب متنوعة لا داعي الى الخوض فيها الآن. وقد يكونون ساهموا اراديا او على نحو لاارادي في تعميق المشاعر المذكورة. اما ثاني الاسباب، فهو الروح الطائفية والمذهبية التي تعكسها تشكيلة التكتلين اي "8 آذار" والمتحالفون معه او المتعاونون، و"14 آذار"

والمتحالفون معه والمتعاونون رغم ما يوجد في كل منهما من تنوع مذهبي او طائفي. فمن جهة تعكس "8 آذار" موقف الطائفة الشيعية او معظمها من كل ما يجري في البلاد رغم المكونات غير الشيعية فيها. وتعكس ايضا وان لم يشأ مؤسسوها ذلك رغبة او قرارا باقامة محور سياسي اساسه الشيعة والمسيحيون هدفه حكم البلاد بالافادة من ظروف داخلية واقليمية معينة. وقد ظهر ذلك في وضوح بعد "تعاون" "التيار الوطني الحر" الموثق مع "حزب الله". ومن جهة اخرى تعكس "14 آذار" تحالفا سنيا – مسيحيا – درزيا يسعى الى حكم البلاد او منع الآخرين من الاستئثار بحكمها بالاستناد الى ظروف اقليمية ودولية معينة. علما ان اقطاب هذه الكتلة ينفون ذلك ويرفضون اتهامهم به.

طبعا، ليس الهدف من كل هذا الكلام اتهام كتلة وتبرئة اخرى او اتهام الكتلتين معا بالطائفية والمذهبية وبما يلحقهما من امور. فالخلفية الطائفية والمذهبية موجودة عند الجميع من زمان. وقد ظهرت على السطح وكانت لها آثارها المدمرة اولا بين عامي 1860 – 1864. وثانيا، عام 1958. وثالثا، بين عامي 1969 – 1990. ورابعا، في سنوات "السلم الاهلي" التي لم تحمل من السلم الا الإسم. لكن الانصاف يقتضي الاشارة الى ان لبنان اليوم وبعدما انفرزت فيه كل القوى بل الطوائف والمذاهب امام طريقين لا ثالثة لهما. الاولى، تكريس دولة الطوائف والمذاهب التي لها صيغ كثيرة لا يصب معظمها في وحدة الوطن. والثانية، التخفيف من السلبيات الطائفية والمذهبية من طريق اقامة دولة مدنية تساوي بين مواطنيها مع احترام الطوائف والمذاهب ربما تمهيدا لاقامة دولة لا طائفية بعد وقت طويل. واذا اختار اللبنانيون الثانية فان عليهم ان يقبلوا التكتلات السياسية الكبرى العابرة للطوائف والمذاهب التي بدأت ملامحها تتكون. لكن على قياداتهم في الوقت نفسه ممارسة الحرية اي حرية الاختيار الى اقصى حد ممكن بحيث يستطيع اي لبناني اختيار الكتلة او التيار الذي يريد الانضمام اليه وبحيث لا يكون مجبرا بفعل سيطرة القوى الكبرى في طائفته على التزام تيار دون غيره.

فالاجبار هنا يعني ان التنوع السياسي والطائفي والمذهبي ضمن الكتل الكبرى ليس اكثر من ديكور او واجهة لكتلة مذهبية او دينية قوية حتى الان. ومن ملاحظة تشكل الكتل الحالية الكبرى او بالاحرى الكتلتين الكبريين "8 اذار" و"14 اذار" يلاحظ اللبنانيون ان حرية الاختيار عند السنة متاحة وعند المسيحيين متاحة والى حد ما عند الدروز. لكنها ليست كذلك عند الشيعة. وترك الحرية عند هذه الطائفة الكبيرة والوطنية لا يعني رغبة في "فكفكتها" او تشرذمها او ضرب اقوى قوة فيها اي "حزب الله" فذلك مستحيل نظرا الى ما للاخير من تقدير في وجدان الشيعة واللبنانيين عموما. بل يعني عدم حشر الناس داخلها وداخل الطوائف الاخرى للعودة الى الاصطفاف على اساس مذهبي او طائفي. وعلى الاقوياء داخل الطائفة الشيعية اليوم الا يخافوا ذلك لانهم يمثلون فعلاً، اما مستقبلا فان تمثيلهم يقرره الناس بالوسائل الديموقراطية. الا اذا كانوا غير مؤمنين فعلا بها.