نصر شمالي

أصبح من شبه المؤكد أن القوات الأميركية سوف تبقى في المدن العراقية إلى أجل غير مسمى، ما لم يتحقق تشكيل حكومة عراقية قادرة على قيادة شرطة موالية وجيش موال، وعلى تحقيق الأمن والنظام لصالح الأهداف الاستراتيجية الأميركية التي دفعت إلى احتلال العراق، وهذا ما أكّده الرئيس بوش في خطابه الأخير حول حال الاتحاد، حيث بدا مصمماً على المضي قدماً في عمليات إلحاق الهزيمة بالمقاومة، في العراق خصوصاً وفي المناطق الأخرى عموماً، على الرغم من التعثر والتخبط وانسداد الأفق، وعلى الرغم من تعالي الصيحات الأميركية الداعية إلى الانسحاب.

يقول بعض كبار المحللين السياسيين الأميركيين أن وقت الانسحاب من العراق بصورة مشرّفة قد فات، وأن تنفيذه في الحالة الراهنة سوف يكون مهيناً للولايات المتحدة وخطراً على مكانتها الدولية، ولذلك تجد الحكومة الأميركية نفسها مرغمة على إبقاء قواتها، آملة أن تنهض حكومة محلية بأعباء حرب المدن وإنهائها نيابة عنها، وتبقي الطريق مفتوحة لتحقيق أهداف الاحتلال الأساسية!

بين البذخ والترشيد!
لقد كشف الخطاب الأخير للرئيس الأميركي عن عمق المأزق الذي تواجهه حكومته في العراق، عندما دعا إلى تقليص استهلاك الطاقة وترشيده، وإلى الحدّ من اعتماد الولايات المتحدة على نفط منطقة الشرق الأوسط، وهو الذي كان يمنّي الأميركيين عشية الاحتلال بفيض من هذا النفط، بينما أحد معاونيه (بول وولفويتز) يحدثهم عن بحر النفط الذي يسبح فوقه العراق، ويعدهم بأن جزءاً من عائدات نفط العراق سوف تغطي نفقات الحرب دون الحاجة إلى أموال أميركية، وأنهم سينعمون بالفائض العظيم، غير أن الإنتاج العراقي، الذي وعدوا أنفسهم برفعه إلى ثلاثة ملايين برميل يومياً على الفور، ثم رفعه إلى ثمانية ملايين برميل خلال سنوات قليلة من الاحتلال، ثم إلى خمسة عشر مليون برميل بعد عقد من الزمن، هذا الإنتاج انحدر من مليونين ومائتي ألف برميل عشية الاحتلال (في ظل الحصار عام 2003) إلى مليون ومائة في نهاية عام 2005، وذلك نتيجة بطولات الشعب العراقي الذي وضع جميع أهداف الاحتلال، عراقياً وإقليمياً، في مهب الرياح، وها هو الرئيس الأميركي يدعو شعبه إلى تكثيف الأبحاث لإيجاد مصادر بديلة للطاقة النفطية، مثل الوقود المستخرج من شرائح الخشب والأعشاب ومن الصخور، وهو الذي كان يسخر من هكذا بدائل ويدعو الرجال الحقيقيين، رجال تكساس خاصة، للتنقيب عن النفط في آلا سكا، ولمؤازرته في احتلال الدول المنتجة للنفط!

مركز قيادة الشرق الأوسط!
غير أن دعوة الرئيس الأميركي في خطابه الأخير لترشيد استهلاك الطاقة النفطية، والبحث عن بدائل لها، لا يعني سوى توجّهاً سياسياً احتياطياً، أي أنه يحتاط لهزيمة لم يقرّ بإمكانية وقوعها بعد، فالإدارة الأميركية تواصل عملها المتعثر المتخبط بناء على استراتيجية احتلال البلدان النفطية، والسيطرة على البلدان المحيطة بها، وهي الاستراتيجية التي وضعت أسسها في العام 1996 تحت عنوان: الشرق الأوسط الأكبر! وهكذا نراها تؤكد إصرارها على إبقاء قواتها في المدن العراقية، إلا إذا نهضت حكومة محلية بمهمات هذه القوات، ونراها تواصل العمل في إقامة المبنى الهائل في المنطقة الخضراء من بغداد، الذي يقام كمقر للسفارة الأميركية، والذي قدّرت تكاليفه حتى الآن بمبلغ 592 مليون دولار، فضلاً عن مواصلتها العمل في إقامة قواعدها العسكرية الدائمة بعيداً عن المدن العراقية! وخلاصة القول أن الترتيبات الأميركية التي وضعت قبل الاحتلال، باعتبارها مضمونة النجاح مسبقاً، ما زالت قيد التنفيذ في ظل الاحتلال على الرغم من أن نجاحها لم يعد مضموناً! لم يخطر ببالهم قبل مجيئهم ظهور مقاومة عراقية، ففوجئوا بظهورها منذ الأيام الأولى، فكان أن اضطربت حساباتهم، وتعثّرت خطاهم، واهتزّ يقينهم، ليجدوا أنفسهم في وضع لا يستطيعون معه التقدم ولا الانسحاب!

جهل مريع وأيديولوجية ساذجة!
لقد حاول الرئيس بوش في خطابه الأخير عن حال الاتحاد التخفيف من حدّة الضغوط التي يتعرّض لها بصدد ضرورة الانسحاب من العراق، فأشار إلى مسألة إعادة القوات الأميركية إلى أرض الوطن، لكنه، في الوقت نفسه، سارع إلى التعهّد بإلحاق الهزيمة بما أسماه الإرهاب، وبما أسماه الإسلام الراديكالي، فكيف سيوفق بين تعهده بالانسحاب من المدن العراقية وبين تعهده بالانتصار الحربي على الإرهاب؟ الجواب يكمن في رهانه على نجاح العملية الانتخابية الديمقراطية في العراق، التي يفترض أن تأتي بحكومة وحدة وطنية، حليفة للولايات المتحدة وضامنة لمصالحها، فقيام مثل هذه الحكومة الجامعة المانعة سوف يحجب الهواء عن رئتي المقاومة، فيخرجها من المدن، ويدفع بها إلى البوادي المكشوفة، حيث تتكفل الطائرات المقاتلة الأميركية بمطاردتها وإبادتها بعيداً عن المدن الآمنة، وعن آبار النفط وأنابيبها العاملة!

يقول وليام فاف: ترجع المشاكل التي تعاني الإدارة الأميركية منها إلى تبنيها أيديولوجية ساذجة، وإلى جهلها المريع بالعالم الإسلامي، وإلى ثقتها العمياء بقوتها العسكرية، وهو ما أدى إلى دخولها مغامرة العراق، وهكذا بدلاً من أن تسهم في صياغة العالم كما تطمح فإن العالم يقوم بصياغة توجهاتها، إنما بتكلفة عالية يدفعها الشعبان الأفغاني والعراقي (والفلسطيني أولاً) فضلاً عن الجيش الأميركي!