يحتاج إحراق العالم إلى ثقاب وحفنة من عقول الشر والجريمة، وأحيانا الغباء. فالرسام الدانماركي الذي أحرق ثوب بلاده، مخلوق غبي يمكن أن يستخدمه عقل شرير في مخطط يتعدى الدانمارك إلى ماليزيا، أو إلى الصين. والمتظاهرون الذين حولوا إحراق سفارة الدانمارك إلى محاولة لإحراق بيروت وسلام لبنان، مجموعة أنابيب فارغة يمكن للشر أن يعبئها الغاز الذي يشاء. والذين فجروا سامراء، متآمرون يعرفون أن الهدف ليس ضريح الإمام العسكري بل تفجير العراق إلى سنوات طويلة مقبلة.

جريمة مذهبية تتبعها جريمة مذهبية مضادة. فليس ما يحرك في الإنسان مثل مقدساته في عالم الروح، أو عرضه في عالم الجسد. ولذلك يسمي العربي المرأة عورة، ويعزلها عن مجتمعه الذكوري، لكنه مستعد لأن يقتل من أجلها أو أن يقتلها. والذين يعتدون على المقدسات الروحية، يعرفون أن الاعتداء يسبب أقصى حالات الألم ويحرك أقصى مكامن الثأر. والذين يحاكمون صدام حسين الآن في مجزرة الدجيل يعرفون أنها لا تحرك ساكناً إلا عند أهلها، أما القضية الحقيقية في العراق فهي ما فعله النظام في كربلاء من خلال حسين كامل. والنظام الذي اغتال الإمام الصدر لم يدرك أن ابنه سيولد زعيماً بلا عناء.

الشعور بالكرامة هو «المقتل» في المجتمعات الشرقية. حرك الإسرائيليون «حرب الجبل» في لبنان عندما دفعوا مقاتلي الكتائب إلى إهانة مشايخ الدروز ورمي عمائمهم في الشوارع. وقبل 13 نيسان 1975 حدثت محاولات كثيرة لإشعال الحرب الأهلية في لبنان، واغتيل النائب معروف سعد في صيدا قبل شهر، لكنها لم تشتعل إلا بقتل رجلين أمام كنيسة «عين الرمانة». لذلك يركز المتآمرون ومحركو الفتن الكبرى على ما يثير في الناس مشاعر الانتماء والهوية. والذي فجّر ضريحَي سامراء كان يهدف في الحقيقة إلى تفجير مساجد السنة. ولا يكفي إحراق الكنائس في بغداد لإشعال الحرب، ولا حتى إحراق المساجد العادية، لذلك استهدفت الضرائح الرمزية. ولم تكن هذه المرة الأولى. ففي بدايات الاحتلال جرت محاولات للاعتداء على مرقد الإمام علي نفسه.

لقد تحول العراق من بلد تتصارع فيه التيارات الفكرية والقومية، إلى بلد تتقاتل فيه الطوائف والمذاهب وتفجر فيه المقامات الرمزية. وهذا يعني أننا لم نرَ أسوأ وأضرى مراحل الحرب بعد. وليس بعيداً أن يكون هناك من يسعى لتحويل «صراع الحضارات» إلى صراع المذاهب والعودة بالعراق مئات السنين إلى الوراء. وهذه مسؤولية القادة الروحيين ومدى شجاعتهم في مواجهة موجات الجهل والانحطاط التي تريد تفجير الضرائح الرمزية الفردية من أجل أن يصبح العراق مدفناً عاماً ومقبرة كبرى لا وقت لإحصاء المرميين إليها. إن في العراق اليوم احتلالاً ضائعاً ومُكابراً يدعي «الانتصار»، وحكومة هزيلة وتائهة، ومنظمات دموية فاسقة. وهو حقل تجارب لفتنة كبرى يجب أن توأد.