بعد جملة الإجراءات التي اتخذتها قيادة السلطة الفلسطينية وحركة فتح، وما رشح حول ممارسات أخرى ستظهر لاحقاً، يمكن القول إن الصيغة التي أرادتها الأطراف الفاعلة في اللعبة وعلى رأسها حركة فتح هو تسليم السلطة أو الدولة لحركة فتح فيما تمنح الحكومة بصلاحيات أكثر من محدودة لحركة حماس.

الصيغة التي نحن بصددها هي ذاتها الصيغة المتوافرة في المملكات والجمهوريات العربية، وهذه الأخيرة اصطلح على تسميتها عربياً بالجملوكيات نظراً لاقتراب الرئيس فيها من صلاحيات الملك، فضلاً عن نهج التوريث الجديد الذي برز خلال الأعوام الأخيرة.

والحال أن حركة فتح لن تمنح حماس ما تمنحه الأنظمة العربية الأخرى لحكوماتها لأن هذه الأخيرة لا تمنح الحكومة، أقله إلى الآن، إلا لمن تثق في تبعيتهم لتوجهاتها على مختلف الأصعدة، أما في حالة فتح فقد آلت الحكومة وعلى نحو غير متوقع لحركة معارضة تختلف في منهجها وبرامجها السياسية وغير السياسية.

ولأن جميع الأطراف العربية الفاعلة، ومعها الإقليمية والدولية لم ترتح لمسار كهذا، وربما شجعت الانقلاب عليه، فقد بادرت حركة فتح، أو حزب السلطة إلى اتخاذ جملة من الإجراءات العجيبة الغريبة لسرقة صلاحيات الحكومة الحماسية، مع الإبقاء على بعض الصلاحيات الهامشية هنا وهناك.

لم يكن القانون الأساسي للسلطة، والذي يمنح الرئيس صلاحيات كبيرة سوى البداية، إذ يمنحه رئاسة القوات المسلحة، وهي في السلطة تعني الأجهزة الأمنية، فيما كان القانون قد عدّل أيام ياسر عرفات، حيث وضعت ثلاثة أجهزة خدمية تحت ولاية الحكومة، وهي الدفاع المدني والشرطة والأمن الوقائي. والنتيجة أن أهم الأجهزة، وعلى رأسها الاستخبارات والمخابرات وقوات الـ17 قد بقيت تحت ولاية الرئيس الذي هو من حركة فتح.

لم يكتف القوم بذلك بل هددوا حماس في حال أقدمت على فصل شرطي أو موظف، وهو ما فعله محمد دحلان وقائد الشرطة علاء حسني، ما يعني أن حماس لن تتمكن من التصرف مع أي متجاوز للقانون مهما كان، مع أنها تعلم أن من يروعون الناس هم غالباً من أعضاء الأجهزة الأمنية ومنتسبي فتح ويتقاضون رواتبهم من ميزانية السلطة.

بعد الأجهزة الأمنية هناك تعيين السفراء في الخارج وممثلي السلطة، وهو أيضاً من صلاحيات الرئيس، أي أن حماس لن تغير سفيراً واحداً يمكنه أن يعبر عن قناعاتها. أضف إلى ذلك بالطبع الإعلام الرسمي، وهذا أيضاً سيكون إعلام السلطة التي يمثلها الرئيس أي الملك عملياً، وأقله الرئيس على النمط العربي.

المفاجأة المثيرة للسخرية بكل المقاييس تمثلت في الجلسة التي عقدها المجلس التشريعي المنتهية ولايته واتخذ فيها جملة من القرارات المهمة، بل البالغة الأهمية، حيث أكلت تلك الجلسة ما تبقى من صلاحيات لحكومة حماس.

أهم قرارات الجلسة تمثل في منح الرئيس الحق في تعيين أعضاء المحكمة الدستورية العليا التي تبت في الخلاف بين السلطات الثلاث وتمرر تشريع القوانين، أي أن حماس لن تتمكن من التشريع على رغم أغلبيتها البرلمانية، كما أنها ستكون الحلقة الأضعف في أي خلاف ينشب بين السلطات.

بعد ذلك منح الرئيس حق تعيين مدير ديوان الموظفين أي أن حماس لن تتمكن من تعيين أحد إلا بموافقة فتح، وبعد ذلك جرى تعيين أمين عام المجلس التشريعي، حيث سيسيطر هذا الأخير على آليات عمل المجلس في تناقض واضح مع رئيسه من حركة حماس. ربما قيل هنا إن حماس ستتمرد على هذه القرارات بوصفها غير دستورية، لكن ذلك ليس مضمون النجاح، فيما سيكون له ثمنه على صعيد العلاقة مع فتح من جهة أخرى.

لم يكن ذلك هو كل شيء، فقد استصدر مرسوم رئاسي على عجل ينص على أن أعضاء المجلس التشريعي هم أعضاء في المجلس الوطني الفلسطيني، فيما يعلم الجميع أن حماس ليست عضواً في منظمة التحرير وأن أغلبية المجلس الوطني (700 عضو) هي لفتح!!

تبقى مسألة التفاوض، وهذه قيل علناً أنها من صلاحيات الرئيس الذي هو رئيس اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير التي وقعت الاتفاقات مع الدولة العبرية، فضلاً عن كونه رئيس السلطة المنتخب على أساس برنامجه.

هكذا تفتقت عبقرية القيادة الفتحاوية على صيغة هي ذاتها الصيغة العربية التقليدية، مع فارق أن السلطة هنا ليست دولة، وبالطبع من أجل حل معضلة خطأ لا يجب أن يتكرر يتمثل في منح حزب معارض الفرصة في الحصول على أغلبية برلمانية لا تصل بالطبع إلى نسبة الثلثين.

هذه الصيغة إلى جانب مجموعة من الإجراءات التي اتخذتها وستتخذها سلطات الاحتلال قد يكون من بينها اعتقال أعضاء حماس في البرلمان عن الضفة الغربية، فضلاً عن الحصار الأمريكي والدولي؛ الاقتصادي والسياسي ستشكل عنصر ضغط كبير على حماس قد يدفعها نحو الاستقالة من اللعبة من تلقاء نفسها.

أما إذا لم يحدث ذلك وأصرت حماس، بحسب المرجح، على المضي في عملها ضمن الهوامش المتاحة، مع وضع الجماهير الفلسطينية والعربية والإسلامية في الداخل والخارج في صورة المؤامرة، فإن حل البرلمان وإعلان حالة الطوارىء المؤقتة لن يكون أمراً صعباً بحال.

سيشكل ذلك كله معضلة كبيرة بالنسبة لحركة حماس، وهي لن تكون ملامة لو أعلنت للناس حقيقة اللعبة وقررت الخروج منها نقية كما دخلت، مع الإبقاء على محاولات خدمتهم من خلال البلديات التي فازت فيها. لاسيما وأن صلاحيات الحركة لن تتعدى الصلاحيات البلدية، مع فارق أن عليها في الحالة الأولى أن تدبر رواتب جحافل من الموظفين الفتحاويين ممن يتخصص بعضهم في إثارة الفوضى، ومعهم آخرون لا عمل لهم على الإطلاق سوى قبض الرواتب آخر الشهر.

ربما كان من الأفضل للحركة الانقلاب على هذه اللعبة، لكن الموقف الآخر هو محاولة عمل شيء مع وضع الناس يومياً في صورة ما يجري، لاسيما وهم واعون لحقيقة اللعبة، إضافة إلى تجييشهم في انتفاضة واسعة ضد إجراءات الاحتلال، لاسيما استمرار بناء الجدار والاغتيالات والاعتقالات وعدم الإفراج عن الأسرى.

الجانب الأكثر أهمية في فعل حماس يتمثل في الإصرار على الثوابت وعدم المساومة عليها، لأن أية مساومة ستمنح الآخرين فرصة الانقلاب من دون رد فعل شعبي.

إنه الموقف الأهم، لاسيما وأننا إزاء صراع ما يزال طويلاً، وقد لا يحل في المدى القريب، لكن التقدم إلى الأمام يظل ممكناً، وكما حررت المقاومة غزة، فسيكون بوسعها تحرير الضفة، مع أن الأولى لم تتحرر تماماً بعد أن منح قادة السلطة للإسرائيليين فرصة استمرار السيطرة ولو النسبية على معابرها البرية، إضافة إلى السيطرة المطلقة على البحر والأجواء.