عبد اللطيف مهنا

لا يمكن فصل هموم الإدارة الأمريكية المتزايدة في المنطقة عن دوافع جولة وزيرة خارجيتها كونداليسا رايس الأخيرة في المنطقة. كما أن جدول الزيارة في حد ذاته يشي بنوعية المهمة التي أنيطت بصاحبة الجولة، فجاءت تسعى بالمكشوف لمقاربة استهدافاتها. وإذا كان الأمر لذلك، فلا يمكن أيضاً فصل هذه الهموم وهذه المهمة وما تحمله من استهدافات عن مجمل السياسات الكونية للدولة الأعظم، والقطب الأوحد المتفرد بقرار العالم في هذه الحقبة الزمنية غير المتزنة من تاريخه... مجموعة عناوين متشابكة وواضحة ومكشوفة اكتظت بها جعبة الوزيرة الجائلة، والتي أكثرت خلال جولتها الكلام، لكنها لم تقل جديداً وإنما كررت قديماً... هذه العناوين هي ما يرمز لتلك الهموم، وحولها ولتبديدها تدور دوائر الجولة، بل وعموم الحركة الأمريكية الراهنة في المنطقة، وهي:

تراجع المشروع الأمريكي في المنطقة بمسمياته "الخيرية" المختلفة بعد تعثره البائن في العراق وفلسطين وارتباكاته الراهنة في لبنان. وفشل حرب بوش الكونية الواضح على عدوه اللامرئي المسمى ب"الإرهاب"، والتي كان حصادها المر حتى اللحظة، أن العالم لم يعد أكثر أمناً، كما توالت علينا مزاعم صاحب هذه الحرب المتكررة. بالإضافة إلى تزايدٍ يومي مضطردٍ في العداء العربي والإسلامي المبرر للولايات المتحدة. وهذا السقوط الإخلاقي الذي لحق بها في نظر عالم تصدمه حتى الثمالة صور المآثر الأمريكية والبريطانية في "أبو غريب"، والبصرة، وغوانتينامو... وهي مآثر أصبحت بقدرة قادر تترى في متوالية ليست بريئة، بل لعلها مقصودة، على شاشات التلفزة وصفحات الجرائد الباحثة عن السبق والإثارة، وتبدأ دائماً في الغرب ذاته... واستطراداً، مخالفة حسابات بيدر الديمقراطية العزيزة شعاراتياً على قلب الإدارة، في كل من مصر وفلسطين، حتى الآن فحسب، لحسابات الحقل الأمريكي، الذي لم يكن يأمل في حصيلةٍ لها تفاجئه فتأتي بالإسلاميين بدلاً من تابعين مرتجين... وأخيراً، وليس آخراً، تنامي الدور الإيراني الإقليمي، وحكاية البرنامج النووي الإيراني... والأهم بوادر تشكل محور إيراني سوري فلسطيني لبناني مقاوم، هو يظل في حكم الموضوعي، بل لعله سيكون لاحقاً، وبالضرورة، رافعةً تظل مقلقة وغير مستحبة أمريكياً، لممانعة أشد وأصلب عوداً مع الأيام للإملاءات الأمريكية الإسرائيلية في المنطقة.

بادئ ذي بدء، جولة الوزيرة رايس هذه كشفت بلا لبس عن تحوّل أمريكي لم يعد خافياً، أو لم تعد هناك بعد من حاجة إلى إخفائه، وهو أن شعارات نشر الديمقراطية التي ما أنفكت الإدارة الأمريكية تتغنى بها، وجاءت الوزيرة للتبشير بها أو ابتزاز بعض أصدقاء الولايات المتحدة العرب عبر الحديث عنها، لم تعد شرطاً أمريكياً للسلام، وفق ما كانت تدعو إليه نظرية الإسرائيلي شارانسكي، الذي فاخر الرئيس الأمريكي يوماً ما بتتلمذه على يده، عبر تأثره بكتاب شارانسكي اليتيم والسخيف الشهير. لأن أول ما سعت إليه الوزيرة رايس هو الاستعانة بما قد يتوفر لها عربياً من سبل ضغط ممكنة لمحاصرة ما يمكن تسميته "سلطة الديمقراطية" الجديدة أو المنتظرة في فلسطين. وأحكام المقاطعة الدولية والإقليمية ما أمكن من حولها، وبلغة أخرى، معاقبة الشعب الفلسطيني، حد التجويع وتجفيف منابع الدعم، لأنه صوّت إلى جانب المقاومة وضد الفساد، رافضاً مسيرة التصفية الدائرة لقضيته العادلة، بمسمياتها السلامية الزائفة، والتي تسعى أطرافها المتعاضدة إلى تدجين "السلطة" الجديدة وجرها إلى أوحالها الأوسلوية المتراكمة. ألم يقل الريئس بوش:

"ما دامت حماس لا تعترف بحق إسرائيل في الوجود، فليس لدينا في رأيي شريك في السلام، ومن ثم لا ينبغي أن نموّل حكومة ليست شريكة في السلام"!

الوزيرة رايس بدأت بما يسمّوا بالمانحين، أي بالاتحاد الأوروبي، فالرباعية. ومن حصاد ما بدأت به، وحتى قبل ذلك، كانت تصريحات خافير سولانا المتطابقة جوهراً لا صياغةً مع ما قاله الرئيس بوش، وكذا بيان الرباعية المعروف، رغم قليل من التراجع المناور المداور اللاحق من كافة هذه الأطراف، أملاً في تدجين منتظر أو استجابة مأمولة من قبل "السلطة" الجديدة، وهو الأمر الذي يظل أيضاً هدفاً مركزياً في لب مساعي الجولة الكونداليسية العربية الأخيرة.

في العراق الدامي المستباح، لكن المقاوم للاحتلال، أصبح واضحاً للإدارة الأمريكية أنه لم يعد بوسعها الأمل بالانتصار، كما أنه، ونظراً لطبيعتها الإمبراطورية، من غير المقبول أو المسلم به بالنسبة لها تصوّر الهزيمة، أو التفكير في الانكفاء عن المشروع أو الاستهدافات الاستراتيجية التي كمنت وراء عملية الغزو أساساً. وعليه فإن المطلوب من رايس، وهي تجول في عواصم المنطقة، البحث عن سبل حل هذه المعضلة وتسهيل ظروف هذا الاحتلال الصعبة، ونشدان المساعدة الإقليمية على التغلب على تبعات الغوص في أوحال الورطة العصية هناك، لكن مع الاحتفاظ بذات المشروع أو ذات الاستهدافات المشار إليهما من وراء ذلك الغزو. إذ أنه مع ازدياد التعثر وكلفته البشرية والمادية، وتزايد فضائح التعذيب الهمجي الممنهج المنطلق من ذهنية عنصرية كامنة ورواسب حقد دفين ونظرة دونية للآخر، ومن ثم تصاعد الانعكاسات الداخلية في الساحة الأمريكية نتيجة لذلك، تجد الولايات المتحدة نفسها أمام معادلة مرة تبقى حركتها الديبلوماسية في المنطقة ومن بينها جولة الوزيرة رايس أسيرةً لها... من هنا يأتي الحديث السابق على الجولة، عن دور عربي ما في العراق يرتفع ثم يخفت... كما لا يستبعد أن تكون جريمة تفجير المقامات في سامراء، الهادفة لإذكاء الفتنة المذهبية، نوعاً من ترويع للعواصم العربية من تداعيات ستنتشر حتماً في الخارطة العربية انتشار النار في الهشيم، إذا ما ظلت الحال هناك على ما هي عليه، وذلك لدفعها للقبول بمثل هذا الدور، الذي لا يبدو أن واحدةً منها تستسيغه أو قد تقبله بطيب خاطر، أو في المحصلة تأمن عواقبه... هل ما حدث في سامراء بعض تهيئة لإنجاح جولة رايس؟؟!!

قبل القدوم إلى المنطقة قالت رايس أمام لجنة العلاقات الخارجية في الكونغرس، وبالتزامن مع ما يحكى عن نشر خطة أمريكية لعقد من الصراع ضد الإسلام، أن إيران "أكبر تحد استراتيجي تمثله دولة واحدة للولايات المتحدة في تلك المنطقة، لأنها تعتمد سياسات مناقضة لطبيعة الشرق الأوسط الذي تسعى إليه الولايات المتحدة". وعليه، وعندما تأتي لاحقاً إلى المنطقة، فمن الطبيعي أن يكون همها، أو أحد همومها، هو التحريض ضد إيران والسعي لتطويق نفوذها الإقليمي وعزلها، لقطع الطريق على ما سبق واعتبرناه محور الممانعة الموضوعي الذي قد يشكّل مرتكزاً لممانعة أوسع في المنطقة للهيمنة الأمريكية – الإسرائيلية.

...وفي بيروت، التي لم تعد تبحث عن الحقيقة كشعار طرح عقب اغتيال رئيس الوزراء رفيق الحريري، بقدر بحثها عن هويتها وموقعها، والتي زارتها رايس، أو قصرت زيارتها الخاطفة، في إشارة ذات معنى، على بعض القوى الحليفة فيها، سبقت هذه الزيارة شبه الخاصة، أو حتى شبه غير الرسمية، ما دعيت ب"وثيقة الأكراه"، أي أكراه رئيس الجمهورية على الرحيل، باعتبار ذلك حلقة تؤدي أو تسهّل ما يتبعها لا محالة من الاستهدافات الحقيقية للقرار 1559، أي نزع سلاح المقاومة، أو الانتقال من مرحلة لبنان الانتقالي الحافل بالصخب والسجالات إلى لبنان المصادر نهائياً لصالح مسمى "دول الوصاية"، أو الخندق الآخر... سبق في الجولة، ثم لاحقاً في بيروت، أن أصدرت رايس، والوصف لبعض اللبنانيين، "أمر عمليات" موجه ضمناً للقوى الحليفة التي تسمى "الأكثرية" أو "تحالف 14 أذار" يقول:

لا لمساعي الإنقاذ العربية الخجولة، ولا لمساعي تصحيح العلاقات السورية اللبنانية أو وضعها في إطارها السليم ولصالح الشعبين الشقيقين... لا للحوار الوطني الجاد لإخراج البلد من أزمته المستفحلة، وهنا ربما يكمن السر في الإشارة المتمثلة في عدم الالتقاء المقصود بالعماد عون، كعقاب له على الأرجح لاقترافه ما يعرف بتفاهمات مار مخايل مع الأمين العام لحزب الله حسن نصر الله... ونعم للبدء في محاصرة المقاومة، والتسريع في نقل لبنان إلى الموقع الآخر... نعم لإسقاط كل الخطوط الحمر وكل المقدسات في السياسة اللبنانية التي كانت محظورة نظرياً من قبل... حتى تعطيل جلسات مؤسسة رئاسة الوزراء، وتحويل ساحة "ثورة الأرز" إلى هايد بارك شتائمي من العيار الثقيل!

قبل قدوم رايس للمنطقة سبقتها ولحقت بها ورافقتها التصريحات ضد سوريا، بل لعل من الطرائف الأمريكية الخاصة بالأمريكان وحدهم أن يتم رصد مبلغ خمسة ملايين دولار بالتمام والكمال لتأسيس معارضة سورية وفق الأنموذج العراقي إياه، الذي ربما من حسنات سوءاته، التي لا يتوقف أمامها الراصدون لهذا المبلغ، أنه لم يعد هناك على الأرجح من عملاء في المنطقة قد يثقون في الأمريكيين جراء دروسه المرة. كل ذلك يأتي في سياق حملة ضغط مستمرة ومتصاعدة على سوريا ولن تتوقف، هدفها أو أهدافها باتت معروفة للقاصي والداني، وهي:

فك الارتباط بإيران، بفلسطين، بلبنان المقاوم، نسيان جولانها المحتل... وأخيراً المساعدة في الخروج من الورطة العراقية، أو مساعدة الاحتلال في العراق وليس مجرد السكوت عنه فحسب... باختصار، المطلوب أن تغدو سوريا غير سوريا، أو أن تقدم على ما لا يمكنها أن تفعله دون الخروج من جلدها أو الخروج على على ثوابتها ...

ونأتي إلى خسارة الولايات المتحدة لحربها الكونية على عدوها اللامرئي المعروف ب"الإرهاب"، تكفي هنا الإشارة إلى تحول البنتاغون مؤخراً إلى ما يشبه وزارة إعلام فاشلة، حيث اعترف وزير الحرب رامسفيلد قبل أسابيع بتفوق القاعدة إعلامياً على بلاده، داعياً إلى إقامة مراكز مراقبة متخصصة للانترنيت... بالمناسبة الانترنيت هو اختراع بنتاغوني... متجاهلاً مقولة للسناتور ادوار كيندي في هذا المجال تقول، إن المشكلة هي في سياساتنا... بمعنى عدم اعتراف رامسفيلد بفشل تسويق سياسات بسط الهيمنة وتجميل الوجه القبيح لأمريكا... لأمريكا التي إن هي نجحت في غزو المنطقة عسكرياً فقد فشلت في غزو العقل العربي والمسلم، بحيث يصحّ القول هنا، أن المشكلة تكمن في البضاعة وليس في التسويق!

...وفي الختام، لعل من المفيد الإشارة إلى مقال للمفكر الأمريكي المعروف فرنسيس فوكوياما، نشر في العدد الأخير من مجلة "نيويورك تايمز مغزين" عالج فيه الورطة الأمريكية في العراق، حيث لاحظ صاحب مقولة "نهاية التاريخ"، أن العالم يشهد "نوبة جنون ضد أمريكا"، محذراً الإدارة من أن "مزيداً من الديمقراطية يعني المزيد من التغريب والتطرف... والإرهاب" في المنطقة! معرّضاً بما دعاه خطأ هذه الإدارة الكبير "عندما خضت الوعاء"... وحيث يسخر من مقولة "الهيمنة الخيّرة" الرائجة في عقول المحافظين الجدد يقول:

"لم تسيء إدارة بوش وأنصارها من المحافظين الجدد فقط تقدير صعوبة الوصول إلى تنائج سياسية ملائمة في أماكن مثل العراق. لقد أساءت أيضاً فهم الطريقة التي سيرد بها العالم على استخدام القوة الأمريكية"، منوهاً:

"لقد خلقت إدارة بوش بغزو العراق نبوءة حققتها بنفسها، حل العراق الآن مكان أفغانستان كمغناطيس وأرض للتدريب وقاعدة جهاد للجهاديين والإرهابيين بوجود الكثير من الأهداف الأمريكية لإطلاق النار عليها"... مستخلصاً:

"أصبح الآن ما يسمى مذهب بوش (يقصد فلسفته الاستباقية) الذي أرسى الإطار بالنسبة للولاية الأولى للإدارة في حالة ارتباك"... وحيث يدعو فوكوياما إلى تجريد "الحرب العالمية على الإرهاب من طابعها العسكري"، يذكّر ناصحاً هذه الإدارة بأنها حيال "صراع ضبابي طويل، جوهره ليس حملة عسكرية، وإنما منافسة على قلوب المسلمين العاديين وعقولهم حول العالم، كما توحي الأحداث الأخيرة في فرنسا والدانمارك، ستكون أوروبا ساحة قتال مركزية في هذه الحرب"!

هل هذا يلقي ضوءاً على سر الكاريكاتورات الدانماركية المتوالية فصولاً؟!

...تحت ثقل كل هذه الهموم الأمريكية، وحيث يستشري الصراع بين الأيدلوجيين والبراغماتيين من المحافظين الجدد في الإدارة الأمريكية، وتتوالى انتقادات النخب لجموحهم الإمبراطوري وتبعات لوثته المستحكمة، وتزداد شعبية الرئيس وحروبه في الشارع تدنّياً، كانت مهمة رايس، وجاءت جولتها... وما أخرجته من جعبتها من القديم لا الجديد بعض ما تنضح به!