لم يكن الرئيس بوش في يوم من الأيام أحوج إلى الشجاعة السياسية منه إليها الآن. فالشرق الأوسط على شفير كارثة قد تؤثر على أميركا نفسها ما لم تقم بعمل حاسم وجذري لمواجهة الموقف. فالسياسات الأميركية أدت إلى إشعال النار في المنطقة وتغيير هذه السياسات هو السبيل الوحيد لإخماد النار.

فالعراق يوشك أن يصبح مسرحا لحرب أهلية وحشية وإن لم تندلع بعد، وإيران، المستفيد الوحيد من الفوضى التي تسود المنطقة، تتابع تحديها بالإصرار على برنامجها النووي. وأفغانستان التي عادت طالبان تهددها من جديد، تعاني آثار الأفيون المدمرة وتوشك على الانزلاق إلى الهاوية. وفي باكستان يسير الرئيس مشرف على صراط خطير بين سياسات أميركا الاقتحامية العمياء و»الحرب على الإرهاب» وبين خصومه الحريصين على قلب نظامه.

لقد تصورت إسرائيل أن سحق العراق سيؤدي إلى عهد تسود فيه الهيمنة الأميركية – الإسرائيلية على المنطقة، غير أنها نادمة اليوم على دعمها الحماسي لقلب نظام صدام حسين. ذلك أن الحرب قد برهنت على محدودية القوة الأميركية أمام المقاومة الشرسة التي أيقظها الغضب الإسلامي.

أما إسرائيل التي تدعي بأنها بحاجة الآن إلى «عمق استراتيجي» أكبر فإنها تخطط للاستيلاء على أكثر من ربع الضفة الغربية، الأمر الذي يعتبر بمثابة وصفة لمزيد من العنف لأنه يقلص أي «دولة فلسطينية» في المستقبل إلى مجموعة بائسة من الكانتونات المنعزلة التي لا يمكن لأي زعيم فلسطيني أن يقبل بها، خصوصاً إذا كانت الحكومة بقيادة حركة حماس.

واللوم في قائمة الكوارث هذه يقع خطأ أو صوابا على أميركا. فهي لم تبلغ يوما هذا الحد من الكراهية التي تكنّها لها شعوب الشرق الأوسط. هذا في الوقت الذي تستعد القاعدة لتوجيه ضربة جديدة.

ومع أن الوضع الإقليمي يبدو اليوم مظلما أكثر من أي وقت مضى فإن العراق والنزاع الإسرائيلي الفلسطيني من شأنهما أن يمنحا الرئيس بوش فرصة لإنقاذ رئاسته وموقعه في التاريخ، ولكن شريطة أن تكون لديه الشجاعة لتصحيح مساره وهدفه.

فأميركا لم يعد لها مكان في العراق الجريح خصوصا بعد أن أطلقت العنان لشياطين الطائفية. فعليها إذاً أن تعترف بالخطأ وتعلن عن جدول زمني لانسحاب قواتها وترك جيران العراق، إيران وتركيا والبلاد العربية، لتولي معالجة مشاكله. لأن هذه الدول ستكون مؤهلة، متى خرجت أميركا، لأن تعمل متحالفة على التوصل إلى هدنة بين الأطراف المتنازعة، فذلك يتفق جدا مع مصالحها قبل أن تصل حلقة العنف إلى بلادها.

فإذا ما تم التوصل إلى هدنة وساد العراق شيء من الهدوء فسوف يمكن عندئذ تأليف حكومة وحدة وطنية تكون أولى مهامها لمّ شمل البلاد من جديد. وسوف يحتاج العراق إلى صندوق لإعادة الإعمار يتم تمويله من أميركا وأوروبا وروسيا والصين واليابان، ودول الخليج طبعا، ولا بد أن يترك للعراقيين شأن حل الخلافات في ما بينهم بعيدا عن تواجد قوات أجنبية.

كذلك الأمر بالنسبة للأراضي الفلسطينية حيث يتطلب الوضع اهتماما أميركيا فوريا. فالواقع أن الوصول إلى اتفاق عربي إسرائيلي قد يكون السبيل الوحيد لوقف تأييد الإرهاب في سائر المنطقة وإنقاذ سمعة أميركا المنهارة. فالمناسبة إذاً متوفرة واستطلاعات الرأي العام تشير إلى أن سبعين في المئة من السكان يرغبون بحل يقوم على إنشاء دولتين. ومن حق المرء أن يتساءل في هذه الحال: لماذا لم يتم التوصل إلى اتفاق؟ الأرجح أن ذلك يعود إلى ثلاثة أسباب رئيسية: أولها أن ميزان القوى يميل بشكل فاضح إلى إسرائيل، والثاني أن هنالك خلافا واسعا حول حدود إسرائيل النهائية، والثالث هو أن المتطرفين في الجانبين سيسارعون إلى نسف أي اتفاق لا يلبي مطالبهم.

وكمثال على التطرف نذكر على وجه الخصوص شاؤول موفاز وزير الدفاع الإسرائيلي والعضو البارز في حزب ليكود الذي انضم إلى حزب كاديما الجديد، ولكن دون أن يغير أفكاره المتشددة. فهو قد أعلن هذا الأسبوع بأن إسرائيل تنوي الاحتفاظ بما لا يقل عن ست مستوطنات كبرى إضافة إلى القدس الشرقية ووادي الأردن، أي أكثر من ربع الضفة الغربية.

فإذا كانت واشنطن ترغب باستعادة شيء من سلطتها وصدقيتها فعليها أن تتبرأ فورا من مشروع سلب الأرض هذا، وتؤكد تحررها من النفوذ الإسرائيلي البالغ. ذلك أن النزاع يدل على أن الفلسطينيين والإسرائيليين لا يمكن أن يتوصلوا إلى اتفاق في ما بينهم، فهم بحاجة إلى تدخل حازم لمساعدتهم لا تملك القدرة عليه سوى أميركا وحدها. ولدى بوش الآن الفرصة لإعادة الاعتبار إلى أميركا بعد إخفاقاتها العديدة في مسيرة السلام طوال الخمسة عشر سنة الماضية.

ولقد أخفق الرباعي المؤلف من أميركا وروسيا والاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة في التوصل إلى اتفاق. والسبب بعود بصورة خاصة إلى أن هذا الرباعي لم يوضح يوما تصوره للحل النهائي. فالرباعي اكتفى بطرح خريطة الطريق دون توضيح وجهتها. ونتيجة لذلك تم تجاهلها من قبل طرفي النزاع وتابعت إسرائيل توسيع المستوطنات وبناء جدار الفصل في عمق الأرض الفلسطينية في حين أخفقت السلطة الفلسطينية في تجريد المليشيات المتطرفة من سلاحها كما كان يفترض أن تفعل.

فعلى أميركا إذاً أن تعلن بوضوح رؤيتها للحل النهائي لأن زمن التهرب والغموض قد ولى، لا سيما أن المعتدلين في الجانبين يعرفون تماما ما يمكن أن تكون شروط الاتفاق: القدس الشرقية عاصمة الدولة الفلسطينية ذات السيادة والمنزوعة السلاح في الضفة الغربية وقطاع غزة. لا لحق العودة إلى إسرائيل بالذات، فحدود 1967 هي نقطة البداية في أي مفاوضات حول الأراضي. تعويض الفلسطينيين عن أي أرض تود إسرائيل الاحتفاظ بها في ما وراء الخط الأخضر وخصوصا الكتل الاستيطانية الرئيسية الثلاث وذلك بمنح الفلسطينيين مساحات أرضية مساوية. أما المستوطنات الأخرى، فلا بد من إزالتها وإسكان أهلها في إسرائيل.

على أميركا أن تقر مثل هذه المبادئ وتصر على ضرورة إجراء المفاوضات بين إسرائيل والفلسطينيين تحت إشراف دولي. ولكي يكون لهذه المفاوضات أمل في النجاح فإن على أميركا أن تمنع إسرائيل فورا من محاولة عزل القدس الشرقية عن الضفة الغربية وأيضا فصل الضفة عن غزة. وعلى الفلسطينيين من ناحيتهم أن يهيئوا الشروط الملائمة للتفاوض على اتفاق، وذلك بإقامة حكومة وحدة وطنية مؤلفة من فتح وحماس وغيرهما من الفصائل على أساس برنامج سياسي مشترك. وعليهم التأكيد على نبذ العنف على أساس هدنة طويلة الأمد، ودمج جميع المليشيات في قوة أمنية واحدة، ونزع سلاح المليشيات المتمردة كالجهاد الإسلامي وكتائب الأقصى.

أجل، يصعب أن نطلب كل ذلك من الفلسطينيين في وقت يجهدون في البحث عن المال الضروري لتوفير لقمة العيش للشعب، وهم بحاجة ماسة لتنفس الصعداء بعد خمس سنوات من الحصار الوحشي. وإنه ليصعب أن يطلب من حركة فتح التعاون بعد الهزيمة التي منيت بها في انتخابات الشهر الماضي. وهنالك تيار قوي في فتح يحبذ عدم الاشتراك في الحكومة أملا في أن تخفق حماس في المهمة فتعود أيام العصر الذهبي – والمحسوبيات – ولكن أي انقسام في صفوف الفلسطينيين سيؤدي إلى الفشل في انتزاع دولتهم من إسرائيل التي تفوقهم قوة وجبروتا.

ويعتقد بعض المراقبين من الطرفين العربي والإسرائيلي أن هنالك أمرين ضروريين للوصول إلى نتيجة مرضية، الأول الإعلان عن قيام دولة فلسطينية تكون أقدر من منظمة التحرير أو من السلطة الفلسطينية على التفاوض بشأن الحل النهائي مع دولة إسرائيل. والثاني أن يكون هنالك تواجد دولي ميدانيا، مدني وعسكري، ليراقب سلوك الطرفين ويحافظ على السلام في الوقت الذي تجري فيه المفاوضات.

إن أميركا تملك المفتاح. وعليها أن تختار بين الانتظار العبثي لانعزال حماس وفشلها أو أن تقدم بالعكس على التعامل مع الممثلين الجدد في المنطقة. فلدى حماس حلفاء أقوياء في إيران وسورية وحركة الإخوان المسلمين الدولية وفي الرأي العام العربي. تلك هي القوى التي على أميركا أن تتعامل معها على الأقل من أجل سلامتها الذاتي