حين ينجب السيد اسماعيل هنيّه 13 ولداً، وفي غزّة تحديداً، فيما هو لا يزال في أربعيناته، فهذا لا يوحي بالحصافة في تدبّر الاقتصاد المنزلي، فكيف بالاقتصاد الوطني؟

وأغلب الظن أن الفرضيّة السائدة لدى هنيّه ومن يشابهه تفكيراً تقول بإحلال السلاح الديموغرافي محل التدبّر الاقتصادي الذي يُترك أمره لله. ذاك ان العدو يُهزم بالعدد، بغضّ النظر عن انطواء العدد هذا على أفواه جائعة ورؤوس لا يستوعبها التعليم والانتظام المدرسي.

وهي مجرد عيّنة على عقليّة تتربّع في ذروة السلطة المجتمعية وفي بعض ذرى السلطة السياسية في منطقة الشرق الأوسط. أما تربّعها هذا فكان افتتاحه المبكر مع الثورة الايرانية و «قنابلها البشرية» بعدما حال مفهوم «الجماهير»، في حقبة تمجيده القومي – الاشتراكي، من دون الاكتراث بمسألة النسل. بيد أن تنصيب العدد سلاحنا الأساسي في مواجهة العدو جاء، بدوره، تتويجاً لمسار من الافتقار الى الأسلحة، العسكري منها والسياسي والايديولوجي. ففي أمر العدد، بالتالي، يتساكن قدر من التفاؤل الهجومي وقدر من التشاؤم الذي يتاخم الانتحار الذاتي، تماماً كما تتجاور تدخلية في التاريخ، نشطة واقتحاميّة ومبادرة، وقدريّة تسليميّة. واذا تقدّمت منا «الديموقراطية»، في صيغتها البوشيّة المعروفة، كما هي الحال راهناً، نجحنا في اخضاعها للقانون الديموغرافي ومفاعيله على نحو لا يني يتبدّى في بلد بعد آخر. وهو تحول، على ضخامته، لم يثر ولا يثير الاهتمام الكافي لدى المثقفين والمراقبين، المبشّرين منهم بديموقراطية لا يصنعها عملياً الا العدد، والمستفيدين منهم من ديموقراطية العدد.

وكائناً ما كان الأمر، يبدو المطروح اليوم التكيّف مع هذه الحال والإقرار بالنتائج السياسية التي تؤول اليها، بمعزل عن سياسات التهديد الأميركية والاسرائيلية بما في ذلك التلويح بتجويع الشعب الفلسطيني. ووصولاً الى غايات كهذه تُبذل الآن جهود اقليمية ودولية تحاول أن تقطع الطريق على التصعيد المجنون والعبثي.

لكن اذا وضعنا جانباً الحركة الديبلوماسيّة، أتعلّقت بإيران أم بفلسطين، وبغضّ النظر عما اذا كان مصدرها روسيا أم أوروبا الغربية، بقي أن الحركة المذكورة لا تعفي من مواجهة المأزق التاريخي. ذاك أن الجهود المشكورة تلك تثبّت التوازنات الجديدة في نظام ينهض على مجتمعات متصدّعة: ففي كل واحد من بلدان المنطقة تقريباً يحل استقطاب يضع الحياة المدينيّة، بحيويتها الاقتصادية والثقافية وانتاجها لـ «الرأي العام» في مكان غير المكان الذي يقيم فيه العدد. وكم يتجلّى واقع كهذا في الهجرة المتعاظمة للمثقفين اللبنانيين والسوريين، بعد العراقيين، من رطانة الأفكار «المناهضة للامبريالية» الى شتى أشكال الوعي الليبرالي على غموض وتعثّر. وكم يتجلى، في المقابل، توطّن القوة الناطقة بلسان العدد في تلك البقعة المهجورة من الأفكار وقد أضيف اليها قدر بعيد من الرثاثة. فإذا زدنا على ذلك الانقسامات الأهليّة التي تأخذ في غير بلد شكل الاحتراب، أو الاحتراب المؤجّل، جاز الكلام على براكين تقيم تحت التسويات. فكأن بلداننا مدعوّة الى تعايشات فضيلتها الوحيدة، وهي فضيلة كبرى، اجتناب العنف والدم. غير انها، من الناحية الأخرى، لا تحول دون عيش الانقسامات وتعميقها بصمت والمطالبة، كلما لاح ظرف مواتٍ، بإعادة النظر في الوحدات الشكليّة. وفي الغضون هذه يتواصل النزف تؤديه هجرة تأخذ من مجتمعاتنا الأذكى والأمهر فينا.

وهو وضع لا نُحسد عليه الا اننا مدعوون للمضيّ فيه والتلاؤم معه، شعوباً فعلية داخل كل واحد من الشعوب الدفترية، الى أن يقضي الله أمراً...