مصر في مفترق طريقين أم طرق عدة؟ هذان سؤالان مختلفان نوعيًا وليس فقط كميًا. والفرق بينهما كبير وذو دلالة عميقة بالنسبة إلى مستقبل المنطقة العربية، وليس فقط بخصوص مصير مصر. فإلى جانب أن ما يحدث في مصر يؤثر فيما حولها، فالسؤالان مطروحان أيضا بالنسبة إلى دول أخرى غيرها بدرجات مختلفة وأشكال متباينة.

وللفرق بين السؤالين كل هذه الأهمية لأن أحدهما ينطلق من حال الجمود السياسي الذي طال أمده وجعل الإسلام السياسي هو البديل الوحيد المتاح الآن لنظام الحكم، فيما يفترض السؤال الثاني حدوث حيوية سياسية تدريجية ولكن مطردة تتيح خيارات أخرى. إنه الفرق بين وضعين مختلفين أشد الاختلاف. وضع لا خيار فيه أمام المصريين، وعرب آخرين، إلا نظام الحكم القائم والحزب الحاكم من ناحية والإسلام السياسي ممثلا في «الإخوان المسلمين» من ناحية أخرى. ووضع آخر تعود فيه السياسة إلى المجتمع، أو تُستعاد، ويحدث نشاط في الساحة السياسية، وتدب الحياة في بعض من الأحزاب السياسية التي باتت في حال «موت سريري»، وتظهر أحزاب سياسية جديدة، ويجد الناس أمامهم خيارات متعددة ومتنوعة.

وبدهي القول أن الوضع الثاني أفضل مقارنة بالوضع الأول. فالاختيار بين بدائل عدة هو شرط جوهري لسلامة التطور الديموقراطي. كما أن وجود أكثر من خيارين يضمن أن يأتي التصويت الانتخابي أكثر موضوعية مقارنة بالاختيار بين بديلين جرب الناخبون أحدهما لفترة طويلة وتراجعت ثقتهم فيه أو أصابهم الملل لطول بقائه في الحكم. ففي هذه الحال يحصد البديل الثاني الذي لم يُجَرَب أصواتًا يقترع أصحابها لمصلحته لمجرد الرغبة في التغيير وليس إقتناعًا به أو ثقة في قدرته على أن يأتي بما هو أفضل.

ومن هنا خطر وضع الناخب في مثل هذا الموقف الذي قد تكون نتيجته متوقعة سلفا. فإذا أجريت الانتخابات بحرية ونزاهة كاملتين قد يكون فوز البديل الوحيد المتاح مرجحًا. ويصعب تصور ما الذي يمكن أن يحدث عندئذ بسبب غياب تقاليد مرعية وقواعد محترمة لانتقال السلطة والتصرف فيها. وإذا أتاحت الظروف الدولية تدخلا واسعا في العملية الانتخابية لمنع فوز هذا البديل، لابد أن يزداد الوضع احتقانًا وتقل فرص التطور الديموقراطي السلمي بسلاسة في الفترة التالية.

هذا الخطر قد تواجهه مصر إذا ظلت خطوات الإصلاح جزئية بطيئة، واستمر كثير من قادة النظام السياسي والحزب الحاكم في النوم على حرير السلطة بمنأى عما يحدث في الواقع في وقت لا يخلو مجلس من مجالس المصريين من سؤال حائر ومحير عن المستقبل القريب، بل القريب جدا! فلا أحد يعرف إلى أ ين تتجه مصر، وما الذى يمكن أن يحدث فيها خلال سنوات قليلة.

وليس من الصعب أن نفهم مغزى ذلك. فهناك شعور قوي بأن مصر في نهاية مرحلة، ولكن دون أن تظهر علامات المرحلة الجديدة بالنسبة إلى كثير لا يصدقون أن ما حدث في الانتخابات البرلمانية الأخيرة هو بمثابة العلامة الأهم على المستقبل القريب. فالصعود الذي حققه «الإخوان المسلمون» في هذه الانتخابات لم يأت من فراغ، ولن يصب فى فراغ. لقد صعد هذا التيار لأنه الوحيد الذي قام بعمل حقيقي منظم على الأرض لتكوين كتل تصويتية قوية في عدد متزايد من الدوائر الانتخابية، ومازال يواصل هذا العمل بقوة دفع أكبر استعدادا للانتخابات القادمة.

والإخفاق الذي لقيته الأحزاب المدنية في الحكم والمعارضة معروفة أيضا أسبابه. وليس هناك ما يدل حتى الآن على أن ثمة عملاً جادًا واعيًا لمعالجة أسباب الإخفاق. الحزب الوطنى في حال تلعثم حرسه القديم يشترون وقتًا، وإصلاحيوه المخلصون منهم وأصحاب المصالح يحاولون قدر امكاناتهم وخبرتهم المحدودة. ولكن إنقاذ الحزب يقتضي إصلاحات أكبر مما يبدو أن نظام الحكم مستعد له حتى الآن.

أما أحزاب المعارضة فأحوالها لا تخلق اطمئنانًا إلى إمكان أن يكون في الملعب لاعبون قادرون على منافسة «الإخوان» في أي مدى منظور.

فماذا يعني هذا كله؟ يعني أن استمرار هذا الوضع يجعل من الصعب تجنب السؤال عن إمكان فوز الإخوان بالغالبية في الانتخابات البرلمانية القادمة. فهذا احتمال لا يمكن استبعاده. ومادام الأمر كذلك، يصبح الحديث عن أثر وصول «الإخوان» إلى الحكم على طبيعة الدولة ضروريًا، بل أكثر من ضروري.

فالمطلعون على أوضاع «الإخوان» يدركون أنهم هم أنفسهم لا يعرفون بدقة ما الذي يمكن أن يفعلوه إذا حصلوا على الغالبية في الانتخابات البرلمانية القادمة. وهذا في حد ذاته خطر كبير، بخلاف من يطمئنون أنفسهم إلى «براغماتية» هذا التيار. فقد يكون هناك ما يُطمئن فعلا لأن الاتجاه الغالب في قيادة «الإخوان» يميل إلى الاعتدال ويحرص على الانفتاح على الآخر، وإن كان في انغلاق وحديدية تنظيمهم ما يدفع إلى القلق.

وفي كل الأحوال لا يصح الرهان على النوايا عندما يتعلق الأمر بمستقبل الأوطان. فإذا كان وصول «الإخوان» إلى الحكم واردًا، يصبح من الضروري إيجاد توافق عام على مقومات الدولة ونظامها السياسي، وعلى عدم تغيير هذه المقومات بدون حوار وطني يقود إلى توافق عام آخر.

ومن أهم ما ينبغي أن يشمله هذا التوافق هو ألا تؤدي مرجعية «الإخوان» إلى إقامة دولة دينية، أو خلق سلطة ذات طابع ديني فوق سلطات الدولة التشريعية والتنفيذية والقضائية، أي إيجاد نسخة سنَّية من النظام الإيراني.

فإذا كان «الإخوان» يقولون أنهم ليسوا مع إقامة دولة دينية وإنما (دولة مدنية ذات مرجعية دينية)، فلابد أن يكون هناك ما يضمن وجود فرق حقيقى بين هذه وتلك في التطبيق، وليس فقط في الخطاب الرسمي.

فليس هناك معنى محدد واضح لمفهوم «المرجعية» في الفقه السني. وقد رأينا المرجعية الشيعية في التطبيق سلطة دينية عليا تمتلك الحق في مراجعة كل ما يصدر عن سلطات الدولة المسؤولة دستوريًا، بينما هي لا تُسأل ولا تُراقب.

ولا توجد صيغة أخرى واضحة للمرجعية التي يقول «الإخوان المسلمون» إنها لا تعني خلق سلطة دينية. وليس لدى «الإخوان» اجتهاد محدد يوضح كيفية تجسيد هذه المرجعية بطريقة لا تجعل منها سلطة دينية متعالية تراجع كل ما يصدر عن مؤسسات الدولة الدستورية فتجيزه أو تهدره. فمجرد وجود هيئة ما فوق المؤسسات الدستورية يؤدي إلى دولة دينية حتى إذا لم يكن أعضاء هذه الهيئة كلهم من رجال الدين. والقول بأن الدولة الدينية هي فقط التي يحكم فيها رجال الدين ليس دقيقًا. فهذا شكل واحد من أشكال الدولة الدينية عرفته أوروبا في مرحلة معينة. وثمة شكل آخر للدولة الدينية يمكن أن يحكم فيه مدنيون يمتلكون سلطات محصنة دينيا لا رقابة عليها ولا محاسبة. فالعبرة ليست بمن يحكم، وإنما بكيف يحكم.

ومن هنا يصح السؤال المحوري في قضية (الدولة المدنية ذات المرجعية الإسلامية) هو : ما هي هذه المرجعية وكيف تعمل؟ فهل ستكون مثلا في صورة هيئة أو مجلس، وكيف سيتم اختيار أعضائها في هذه الحالة، وعلى أي أساس أو بأي معيار، وكيف ستكون علاقة هذه المرجعية بالأزهر، وهل سيكون لهذه المؤسسة الدينية العريقة صلة بالمرجعية؟

هذه الأسئلة كلها، وغيرها ينبغي أن تكون منطلقًا لحوار وطني عام يقود إلى وفاق على مقومات الدولة المدنية التي يلتزم بها الجميع. فإذا تحقق هذا الوفاق، يصار إلى حوار حول كيفية إنجاز تداول السلطة دون إخلال بتلك المقومات. ويقتضي ذلك تحديد الطريق التي يسلكها من يريدون جعل الدولة المدنية أكثر إسلامية إذا وصلوا إلى الحكم، وكذلك من يرغبون في أن تكون أكثر علمانية، وهكذا. فعندما يكون البلد، أي بلد، في مفترق طريقين، ينبغي على العقلاء فيه أن يعملوا لتجنب وقوع صِدام بين أنصار كل من هذين الطريقين، وأن يسعوا إلى خلق إطار يتعايش فيه الجميع ويتنافسون..