قررت الولايات المتحدة منح مبلغ خمسة ملايين دولار للمعارضة السورية. وحين رفض ناطقون باسمها مبدأ تلقي أموال من دول أجنبية عامة، ومن أمريكا خاصة، قالت جهة رسمية في واشنطن إن المبلغ مخصص لمعارضة الخارج وليس لمعارضة الداخل، وبما أن التصريحات الصادرة عن المعارضة شجبت قيام أي طرف داخلي أو خارجي بأخذ أموال من أية جهة باسم المعارضة أو الشعب السوري أو النضال الديمقراطي، فقد عدلت أمريكا رأيها للمرة الثالثة خلال أيام قليلة، وقالت إن المال مكرس لمنظمات المجتمع المدني.

ليس موقف المعارضة السورية من الدعم المالي الأمريكي موضوع حديثنا. إن موضوعه هو موقف أمريكا من الديمقراطية في العالمين العربي والإسلامي، وهو يتسم بقدر عظيم من التهافت، سببه التناقض بين ما تعلنه من رغبة في الديمقراطية وتصميم عليها، وبين إصرارها على تنصيب نفسها مرجعية وحيدة للديمقراطية ورفضها نتائج أية انتخابات تأتي مغايرة لتوقعاتها، مهما كانت حرة ونزيهة وديمقراطية. لا تلاحظ أمريكا، لرفضها الواقع واقتناعها بأنها تستطيع وحدها معرفة ما يسعى إليه ويريده بقية بني البشر، إن موقفها من الذي يرفض التعامل معها، قبل أن يستجيب لمطالب واشنطن ويحقق شروطها، يقوض مصداقيتها، ويدمر من يتعاون معها أو يمد يده إليها في أية قضية عربية أو إسلامية، داخلية كانت أو خارجية.

في كلامها النظري، تقول أمريكا إن الديمقراطية تنبثق عن صناديق الانتخاب، وتمنح شرعية للفائز يستمدها من الشعب: صاحب الشرعية والسيادة الوحيد، لذلك لا يحق لأحد رفض نتائج انتخابات حرة ونزيهة وسرية. أما في سياساتها العملية، فليس لهذا الكلام أية قيمة، ما دامت تضع عليه شرطا قاتلا هو تطابق نتائج الانتخابات مع مصالحها وسياساتها وخططها، وإلا اعتبرتها باطلة: غير ذات نتيجة وغير ملزمة لها. لا حاجة إلى التأكيد على أن موقفها العملي هذا ينسف مبدأها الكلامي، ويلحق ضررا فادحا بفرص الديمقراطية، ويفقدها معناها ووظيفتها كنظام مساواة وعدالة وحرية يخدم المواطن، ويعزز الدولة والمجتمع، في عالمينا العربي والإسلامي كما في غيره. إلى هذا، فإن استخدام العنف كوسيلة سياسية وما يترتب عليه من نتائج مخيفة بالنسبة إلى المجتمعات العربية والإسلامية، ينسف بدوره الحاضنة المجتمعية والدولية، التي تقوم الديمقراطية في إطارها، ويلحق قدرا من الضرر بأنصارها يجعل من الصعب عليهم تحقيق أي تقدم جدي في بلدانهم، ويثير حولهم شبهات تؤذيهم وتسيء إلى وطنيتهم.

لا تغير أمريكا سياساتها، بل تريد من خصومها من الديمقراطيين العرب أن يغيروا هم مواقفهم، بأرخص ثمن، أي بخمسة ملايين دولار، بينما تضغط كي لا تحصل فلسطين على أي عون خارجي، ما دامت حماس ترفض الاعتراف ب”إسرائيل” وتحتفظ بسلاحها. فهل هذا منطق قوة عظمى لديها مسؤوليات تجاه العالم أم منطق قطاع طرق؟ وكيف تسمح أمريكا لنفسها بإبداء هذا القدر من الاستخفاف بكرامة وعقول الديمقراطيين السوريين والعرب؟ وهل تعتقد أن هؤلاء وأولئك يمكن أن يقايضوا سياساتهم وقبول مجتمعاتهم بهم بأي مال؟ وهل تظنهم سذجا يجهلون ما تفعله ببلدهم والبلدان العربية الأخرى؟

إن رهان الديمقراطيين السوريين والعرب سياسي، وهدفهم سياسي، وطريقهم سياسي، ولم يلعب المال دورا مقررا بالنسبة لهم بالأمس، ولا يلعب اليوم أيضا دورا كهذا. فهل تظن أمريكا أن لأموالها قدرات سحرية يمكن أن تقنعهم بالجري وراءها وترك كل شيء آخر، مع أن في ذلك موتهم المعنوي والمادي؟

يحتاج الديمقراطي إلى سياسات صائبة وعلاقات صحيحة مع مجتمعه ودولته، فإن عجز عن بلورتها وفشل في التواصل مع بني وطنه، عجزت أموال العالم عن مساعدته. هذا ما قالته المعارضة وما ستكرره دوما، حين تتحدث عن أولوياتها. فلا بد، إذن، من أن ينضوي أي مال في إطار سياسي، ومن الضروري أن يخدم المال السياسة الديمقراطية لا العكس، ومن الحتمي أن يكون مالا نظيفا إلى أبعد حد، ما دامت الديمقراطية طموحاً داخلياً وليست لعبة خارجية، فإن كان هناك تنافر أو خلاف بين الجهة السياسية، التي تطلب الديمقراطية وتعد بها، والجهة التي تمنح المال، كان من الارتزاق قبول عون الأخيرة، ماليا كان أو غير مالي، لأن القبول به من شأنه أن يحول المطالبين بالديمقراطية عن هدفهم الأصلي، ويفضحهم كجهة تتاجر بشعارات ومطالب لا تؤمن بها.

لا يريد أحد مال أمريكا، لكننا نطالبها بتبني وممارسة سياسات صحيحة تجاهنا، في سوريا وفي العالمين العربي والإسلامي، تحترم إرادتنا ورغباتنا، وتتعامل معنا كراشدين يستطيعون تقرير شؤونهم بأنفسهم، دون وصاية أو إشراف من أحد، يرفضون مقايضة طموحاتهم بالمال، أو جعل المال هدفا لهم، أو قبوله من جهة تضر بهم وبقضاياهم، أو فصل موقفهم منه عن مواقفهم العامة، التي تتخطى مجالهم الخاص إلى مجال عربي وإسلامي وإنساني، خاصة وأن أمريكا، مانحة المال، تريد ثمنا له، وأنه مال سياسي يخدم أهدافا تتعارض مع الديمقراطية، التي لا تريد لها القيام عندنا، بل تعتبر خصما لدودا لها، لا تجد ما تقطع به الطريق عليها غير شراء أنصارها بالمال.

يلعب المال دورا حاسما في العقل السياسي الأمريكي، الذي يجعل لكل شيء ثمنا. ذات يوم أرادت أمريكا شراء لويزيانا من فرنسا، فعرضت عليها ثمنا. لكن نابليون رفض العرض، فما كان من الرئيس الأمريكي إلا أن أمر وفده المفاوض ب “إعطائه قرشين” يضعهما في جيبه الخاص، لاعتقاده أن نابليون لم يعرض إلا لأنه لم يحصل على مبلغ ما لشخصه، وأن المال يستطيع شراء أي شخص، ما أن يعرف السياسيون سعره.

يؤمن الأمريكيون بقوة المال التي لا تقاوم ولا يرون غضاضة في أخذه من أية جهة كانت. وقد اعتقد رئيسهم في المثال السابق أن نابليون يعترض على المبلغ ولن يعترض على الصفقة، إن اغتنى منها. إنهم يؤمنون بسحر المال وبقوته التي لا يمكن لأحد مقاومتها. والأرجح أنهم توهموا أن المعارضة السورية ستسارع، وقد فقدت صوابها من السعادة، إلى قبول ما يعرض عليها من دولارات، وفاتهم أنها لا تؤمن

بالقيم الأمريكية، ولا تقبل مقايضة مواقفها بأي مال، لأنها تؤمن بمثل عربي يعتبر “المال وسخ الأرض”، خاصة إن كان ثمنه باهظا، وضريبته الحرية والكرامة.

لو كانت أمريكا تمارس سياسات صحيحة في المنطقة العربية، لوجدت ملايين المؤيدين والمعجبين المجانيين بها. إن مشكلتها تكمن في سياساتها، التي لن يتحسن وضعها دون تغييرها، بينما يعني بقاؤها على ما هي عليه عجز جميع ثرواتها عن إخراجها من ورطتها، التي لعب مالها بالذات دوراً مهماً في جرها إليها، وتتجلى في كره المواطن العربي لها ونفوره من طرقها في التفكير والعمل.

ليس بالمال تبنى السياسات، بل بالروح الإنسانية والوعي الفاعل. وليس بالمال تصحح الأخطاء وتعالج الكوارث، بل بالواقعية والتواضع والانفتاح على الآخرين بصفتهم أندادا وأحرارا ومسؤولين عن أنفسهم ومصائرهم.

ولكن، أين أمريكا اليوم من هذا كله