نصر شمالي

يقول الإسرائيليون أن تشكيل حكومة فلسطينية بقيادة حركة حماس يعرض وجودهم للخطر، ولذلك أعلن أولمرت رئيس حكومتهم المؤقت عن أنهم سوف يغتالون إسماعيل هنية المكلف بتشكيل الحكومة الفلسطينية! وإذا لم يكن مستغرباً مرور هذا التصريح الرسمي، الذي يعلن مسبقاً عن جريمة محدّدة سوف ترتكب، من دون أيّ ردّ فعل دولي اعتراضي، فإن ما يمكن أن يكون مستغرباً هو إطلاقه بطريقة توحي كأنما الصهاينة لم يمارسوا عمليات الاغتيال من قبل، وسيقدمون عليها لأول مرة، أو أنهم فعلوها بالذين يستحقونها حقاً وفعلاً، وهم الذين يغتالون الفلسطينيين أفراداً وجماعات لا على التعيين، رضّعاً وصبياناً وشيوخاً ونساء، بذريعة الدفاع عن وجودهم ومنذ نهض كيانهم الغريب.

إن حكاية "الوجود الإسرائيلي" المهدّد على الدوام (منذ الأزل وإلى الأبد!) هي غاية في اللؤم والخبث والسطحية المستندة إلى عقيدة قهر الغير بسبب أو من دون سبب، حيث توظف الحكاية لاضطهاد البشرية وابتزازها والتحكم بها بذريعة أنها تضطهد اليهود، وتوظف لتبرير القتل المسبق للعرب بذريعة أنهم ينوون إبادة اليهود! فإذا أراد عالم أوروبي، حتى لو كان يهودياً، مراجعة وثائق الهولوكست، للتأكد من صحة عدد الضحايا اليهود فقط، اتهم بتهديد الوجود الإسرائيلي، وأدين مسبقاً، وأرسل إلى السجن بحكم قضائي! وإذا قالت منظمة يهودية لحقوق الإنسان أن المخابرات الإسرائيلية ألحقت الضرر والأذى بفلسطيني عادي برئ، من سكان الأراضي المحتلة عام 1948، اتهمت بأنها تهدّد الوجود الإسرائيلي وأدينت مسبقاً (8/3/2006) وبالطبع فإنه لأمر مفروغ منه أن الطفل محمد الدرة شكّل تهديداً للوجود الإسرائيلي، فكان الإصرار على قتله في محاولة دامت بضع دقائق بينما هو يحتمي بحضن والده، فكيف ينبغي علينا النظر إلى هذا الوجود العجيب؟

***

تتلخص قصة الوجود الإسرائيلي في أنه دولة استيطان ولدتها دولة استيطان، فهي ابنة الولايات المتحدة التي نهضت بعد أن نجح المغامرون الإنكليز في استئصال شعوب أميركا الشمالية عن بكرة أبيها، وبعد أن نجحوا في قطع حبل السرّة المتصل بالعاصمة الوالدة لندن، واستقلوا عنها، بل جعلوها تابعة لهم حال قيام دولتهم العظمى على الجثث والأنقاض! لكن الأميركيين، الذين كانوا يتحدثون عن خطر الهنود الحمر على وجودهم حتى منتصف القرن التاسع عشر، ما زالوا يتحدثون حتى اليوم عن خطر يهدّد وجودهم، وينظمون الحروب الاستباقية لمواجهته ويشنّونها دون أن يتوفر ما يشير إلى وجود مثل هذا الخطر، فما معنى ذلك؟ معناه أنها عقدة الجريمة التأسيسية، وعقيدة الحق في إبادة الغير التي تجعلهم يواصلون وجودهم بممارسة المزيد من الجرائم، فالذي يقتل الأبرياء عن عمد، وعن سابق تصميم وتصور، كي يسلبهم ممتلكاتهم، لا يمكن أن يتوقف عن القتل أبداً، فإذا كان هذا حال الأميركيين فكيف يكون حال الإسرائيليين الذين لم ينجحوا في إبادة الشعب الفلسطيني، ولم ينجحوا في قطع حبل السرّة المتصل بالوالدة واشنطن، وبالتالي لم ينجحوا في بسط سيادتهم على الأمة العربية، بالرغم من الدعم الأوروبي الأميركي الهائل المتواصل على مدى قرن من الزمان؟

لقد كان مشهد جورج واشنطن وهو في ذروة انتصاره (الاستقلال!) مأساة كاملة حقاً، حيث الاستقلال تحقق باستئصال عشرات الملايين من أصحاب البلاد وليس بقطع حبل السرّة مع الوالدة لندن، التي ظلت تمدّ المستوطنين الإنكليز بالسلاح والمال والرجال إلى أن استكملوا إبادة أصحاب البلاد! أما مشهد ديفيد بن غوريون عام 1948، بينما هو يقلّد مثله الأعلى الأميركي معلناً "الاستقلال"! فكان مهزلة كاملة حقاً، لأن محاولة إبادة الشعب الفلسطيني لم تنجح، ولن تنجح، ولأن استمرار وجود كيانه الصهيوني كان ومازال قائماً بفضل خط الإمداد الأميركي المتواصل حتى يومنا هذا!

***

والحال أن موقع العرب في تاريخ العالم مختلف عن موقع شعوب أميركا التي أبيدت "بعد أن اكتشفوا وجودها"! ولذلك نجح الاستيطان هناك "في القارة المكتشفة" بينما فشل هنا، في قلب العالم الذي تعرف أطرافه بعضها بعضاً منذ آلاف السنين، وهكذا فعلى الرغم من جميع المحاولات التي بذلها الأوروبيون ثم الأميركيون بقيت البنية التحتية التاريخية العربية صامدة، حيث اختراقتها وزعزعتها هو الخطوة الأولى على طريق استئصال الأمة، لكنهم نجحوا في اختراق بنيتها العليا، السياسية والثقافية والجغرافية، وهم يبذلون اليوم أقوى جهودهم، وآخرها، لتفتيت وتدمير روح الأمة ونفسها وذهنها، أي بنيتها التراثية التاريخية التي تحفظ وجودها، مستعينين عليها ببعض حكامها وبعض قياداتها الثقافية والفكرية المتصهينة!

وسواء تحدثنا عن الأمة أم عن أعدائها فإن فلسطين تبقى محور قضية الوحدة والتجزئة، ومعيار الوجود واللا وجود: وجود الأعداء أو عدم وجودهم، ووجود الأمة أو عدم وجودها! فالكيان الصهيوني مازال مشروعاً ناقصاً قابلاً للانكفاء، بدليل اضطراب بنيته ووظائفه، واضطرار الأميركيين للتواجد مباشرة في المنطقة، بقضهم وقضيضهم في العراق، وذلك تلافياً للتقصير الإسرائيلي الناجم عن العجز قياساً بما كان مرجواً من الكيان الصهيوني!

***

منذ خمسينات القرن الماضي كان الجنرال الإسرائيلي موشي دايان يردّد موضوعته القائلة أن سياسة الانتقام هي ما يحفظ الوجود الإسرائيلي، وأن "الإرهاب" هو سائل الإسرائيليين اللمفاوي، وأن زوال إحساس الإسرائيليين بالخطر الداهم والدائم يعني أن تتقوض المستعمرات ذاتياً وأن يرحل المستوطنون! وإنه لمن الواضح أن دايان كان يراهن على الانسداد الكامل (المطلوب إسرائيلياً وأميركياً) لأفق المعالجة السياسية الجدية العملية، وليس الشكلية التمثيلية، للقضية الفلسطينية، مع عدم تمكين العرب من تشكيل قوة عسكرية مكافئة على الأقل، ومع استمرار العمليات الفدائية المحدودة (الإرهابية!) المسيطر عليها مسبقاً بطريقة ما! تلك كانت معادلة الإسرائيليين التي تكفل لهم المضي قدماً حتى تبديد الأمة بعد استئصال الشعب الفلسطيني، لكن ثبات الفلسطينيين وبطولاتهم، ومؤازرة البنية التحتية العربية لهم، دفع بالأنظمة العربية نحو فتح الأفق السياسي خلافاً لرغبة دايان وأمثاله وأسياده، خاصة وأنه لم يأت بديلاً كاملاً للمقاومة التي تصاعدت بحيث لم تعد السيطرة المسبقة عليها ممكنة، فاضطربت المعادلة الصهيونية، وتحوّلت قصة الدفاع عن الوجود الإسرائيلي بالاغتيالات إلى قصة غريبة، غير مجدية كي تكون مبررة براغماتياً على الطريقة الأميركية، وهاهو أولمرت يتحدث عن عزمه اغتيال رئيس حكومة فلسطينية شرعية، فيذكرنا بدون كيشوت الذي واصل حياة "الفروسية" وأساليبها بعد أن فقدت ضرورتها وجدواها، وبعد أن مضى عصرها وانقضى!