ما حدث في قمة الخرطوم يؤرخ لبدء نهاية تقليد القمم العربية الدورية على الأقل من حيث الجدوى والمضمون إن أصرت الدول العربية على الإبقاء على الشكل كمناسبة تلتقي فيها القيادات العربية كل عام لتبادل إما القبلات أو التلاسن أمام الفضائيات! فقد انتهت هذه القمة دون أي مفاجآت ولم يصدر منها قرار عربي واحد في أي من الملفات الساخنة ـ وهي كثيرة ـ يقول بأن مثل هذه القمم لها مشروع واضح للتحرك على صعيد واحد أو أكثر من هذه الملفات‚

كانوا قد وصفوها قبل أن تبدأ بأنها تاريخية‚ وكم بدا هذا غريبا من بعض الصحفيين المستفيدين من حضور مثل هذه القمم حيث لم يكن من المتصور أن يجري تقييم قمة قبل أن تبدأ أو قبل أن نلمس لها نتائج يصدق عليها وصف القرارات أو المواقف التاريخية‚‚‚ ولكن هكذا جرى الترويج لقمة الخرطوم مع العلم بأنه أصبح من المتعارف عليه في الإعلام العربي وحتى على المستوى الرسمي أن القمم العربية لا تقدم ولا تؤخر كثيرا في حال المنطقة العربية الذي وصل من التدهور حدا يفوق أي مرحلة أخرى‚

وربما بنى الذين وصفوها بالتاريخية تقديرهم هذا على أساس المقابلة بينها وبين قمة الخرطوم الأولى التي عقدت صيف 1967 عقب الهزيمة الشهيرة واتخذت آنذاك عددا من القرارات التاريخية بالفعل دارت كلها في الموافقة على تقديم الدعم المالي والعسكري لمصر وسوريا في الحرب ضد إسرائيل ولتحرير الأرض واتخاذ موقف حاسم ضد الدول الغربية التي إما أيدت إسرائيل أو تعاطفت معها‚ وذلك من خلال حظر تدفق النفط جزئيا إلى هذه الدول‚‚ ولكن الذين تفاءلوا بقمة الخرطوم الثانية لم يأخذوا في اعتبارهم تغير الزمان والأوضاع النسبية للقوة العربية وحال العلاقات العربية ـ العربية فشتان بين المناسبتين اللتين فصلهما نحو 40 عاما تغيرت فيها أشياء كثيرة في المنطقة العربية تصب كلها في عدم الاستطاعة على القيام بأي عمل مؤثر لتغيير الأوضاع المجحفة التي تعيشها المنطقة العربية في أي من مجالات التعاون سياسية كانت أو اقتصادية أو ثقافية‚‚

لم تفاجئنا قمة الخرطوم الثانية بشيء مما يمكن وصفه بالتاريخي بل تجنبت الخوض في الملفات الساخنة وأصدرت إعلانا أو بيانا هزيلا يكرر بعض المواقف المعروفة سلفا فيما يتعلق بالسياسة الإسرائيلية والوضع في العراق وحتى بالنسبة لقضية دارفور التي أطلق منها صحفيو القمة العربية وصف قمة الخرطوم الثانية بأنها قمة دارفور بعد أن أدركوا خطأ التجاوز المسبق بوصفها بالقمة التاريخية‚ حتى هذا الوصف الثاني غير دقيق ويتسم بالمراوغة ويحمل معنى المجاملة للسودان أكثر مما يحمل الرغبة الجادة في تحرك عربي قوي مؤازر له في هذه القضية الشائكة‚

لن نتحدث عن حجم الاعتذارات الكبير بالنسبة لمشاركة القادة حيث أصبح هذا عرفا في السنوات الأخيرة بحيث لا تتعدى المشاركة الآن نسبة 62 أو 63؟‚ ولن نتحدث عن تواضع الاستعدادات أو الترتيبات الأمنية التي جعلت 8 من القادة العرب يحجمون عن المشاركة‚ ولكن نتحدث عن امتداد حالة اليأس العامة لدى الرأي العام العربي من مثل هذه القمم إلى القادة أنفسهم الذين يبدون الآن غير مقتنعين بأن مثل هذه التجمعات مع أنها أصبحت دورية ـ يمكن أن تغير شيئا من الوضع العربي الصعب‚ ويبدو أن استضافة هذه القمم أصبح هما ثقيلا غير مرغوب فيه بالطبع مما يدفع في اتجاه التخلص منه وإلقاء تبعته على الأمانة العامة للجامعة العربية‚‚

وكان لافتا أن المملكة العربية السعودية قد اعتذرت عن عدم استضافة القمة المقبلة ولكنها قبلت بالطبع رئاستها‚ وتم الاتفاق على عقدها في دولة المقر للجامعة أي في مصر (مدينة شرم الشيخ) مما يؤشر إلى تزايد الاتجاه نحو تقليل الهالة التي عادة ما كانت تصاحب عقد القمة العربية أو بالأحرى لتقليل سقف التوقعات التي كثيرا ما تدور حول أي منها قبل أن تعقد‚ وعندما تقر قمة الخرطوم فكرة عقد مؤتمرات قمم تشاورية على مدار العام لا تلتزم بنفس جدول أعمال القمة الدورية‚ فإن هذا بدوره يعني أن القمم الدورية في حالة انعقادها ستصبح بمناسبة إقرار المشروعية العربية على ما تم التشاور حوله في القمم التشاورية ولن تكون مناسبة لفتح المناقشات والحوارات حول أجندة واسعة من القضايا‚ أي أن الفاعلية ستنتقل إلى القمة التشاورية بينما سيتراجع دور القمم الدورية‚ ورغم وصف التشاور فإن المفهوم ضمنا أنه توافق على موقف أو صياغة قرار في قضية أو أخرى‚ فليس معقولا أن يتشاور البعض من القادة لمجرد تبادل وجهات النظر وإنما لكي يصلوا إلى نتيجة تاركين أمر إقرارها للقمم الدورية‚

ولو نظرنا إلى ما توصلت إليه قمة الخرطوم من مواقف تضمنها إعلان القمة فسوف تتضح على الفور عدة ملاحظات جوهرية‚ ففيما يتعلق بدارفور ـ القضية التي كانت تهم الدولة المضيفة ـ سنجد أن القادة أعلنوا استعدادهم لتمويل قوات حفظ السلام الافريقية بمبلغ 150 مليون دولار كمساهمة عربية خلال الأشهر الستة المقبلة‚ كما نص الإعلان على مطالبة الدول العربية بتعزيز مشاركتها في قوات الاتحاد الإفريقي في دارفور‚ ووصف الرئيس السوداني عمر البشير هذا الموقف العربي بأنه تجسيد حي لمعاني التضامن والأخوة‚‚‚

ولكن بنظرة متأنية يمكن اكتشاف عدم فاعلية هذا الدعم‚ فالمبلغ المقترح يبدو هزيلا قياسا على ما تتطلبه مهمة الاتحاد الافريقي هناك خاصة ان من أسباب تعثرها هو أنها مهمة أقل بكثير من حجم المطلوب منها لتوفير الأمن في منطقة شاسعة مثل دارفور‚ وقد رأينا منذ بضعة أشهر أن حربا كان من الممكن أن تقع بين تشاد والسودان إثر تدهور الوضع هناك لأن قوات الاتحاد الإفريقي هي من الصغر والضعف بحيث لا تستطيع ان توفر الأمن والاستقرار لجزء صغير من منطقة كبيرة مثل دارفور‚ ثم أ ن هذا الدعم المالي يبدو أنه سيكون مرهونا بمدى نجاح مهمة الاتحاد الإفريقي من الآن وحتى أكتوبر المقبل وهي المهلة التي أتيحت للاتحاد للقيام بانجاز سياسي مهم يمنع التدخل الدولي الذي يبدو ضاغطا وبقوة من خلال حلف الناتو مدعوما من مجلس الأمن‚ وعلى ذلك فإنه ليس من المتصور أن تتدفق هذه الأموال على الخرطوم بين يوم وليلة بل سيكون تدفقها ـ إن حدث ـ مرتبطا بما سيجري في الشهور الستة المقبلة من جهود لإنجاح المفاوضات السياسية الجارية في ابوجا مع ملاحظة أن هذا النجاح مشكوك في تحقيقه‚ ومن جهة أخرى فإن الحديث عن إرسال قوات عربية تعمل ضمن قوات الاتحاد الإفريقي ليس جديدا حيث توجد قوات بهذا المعنى (كمراقبين) منذ أن بدأ الاتحاد مهمته في دارفور‚ وإذا كان القصد الآن هو زيادة عدد هذه القوات (قيل أنها ستكون من 8 دول عربية) فإن تنفيذ ذلك خاضع لنتيجة المشاورات التي ستتم في هذا الشأن‚ وقد أوضح الرئيس السوداني نفسه ذلك عندما صرح يوم القمة بأن المشاورات لا تزال جارية مع الدول العربية والإفريقية بخصوص إرسال قوات لدعم قوة الاتحاد الافريقي بالإقليم‚

المسكوت عنه في هذا الصدد أن القادة العرب في الخرطوم قرروا عدم إغضاب الولايات المتحدة حيث أعلنوا موقفا داعما للسودان يتماشى مع الحد الأدنى من الالتزامات العربية ولكنه في نفس الوقت لا يخلق صداما مع واشنطن أو بالأحرى مع المجتمع الدولي ممثلا في مجلس الأمن‚ ويلاحظ أن إعلان الخرطوم لم يشر بوضوح إلى رفض التدخل الدولي في دارفور وترك التعبير عن هذا الرفض لحكومة الخرطوم وحدها‚ وعندما تلامس مع قضية التدخل الدولي اكتفى بالإشارة إلى أن القبول بقوات دولية يخضع لموافقة الحكومة السودانية مما يعني التأكيد على أن الدول العربية في مجموعها لا تريد الاصطدام بالإرادة الدولية ولا بالولايات المتحدة‚ وإذا أخذنا في الاعتبار ان واشنطن لم تكن مرحبة بعقد القمة العربية في الخرطوم فإن ذلك شكل إشارة حمراء للمجتمعين هناك بألا تتحول القمة إلى ساحة مواجهة مع الولايات المتحدة‚

عدم إغضاب أميركا لم يقتصر على قضية دارفور‚ وإنما امتد إلى كل من الوضعين الفلسطيني والعراقي حيث جاءت مواقف القمة هذيلة في كل منها‚ صحيح أنها أكدت رفضها لخطة أولمرت رئيس وزراء إسرائيل المنتخب والتي تقضي بالانسحاب الأحادي الجانب من الضفة‚ ولكن سبق للقمة العربية أن رفضت خطة شارون للانسحاب الأحادي الجانب من غزة ولم يمنع هذا الرفض شارون من تنفيذ خطته‚ بل الغريب أن الانسحاب من غزة قد تم الترحيب به من الفلسطينيين أنفسهم والعواصم العربية أيضا من خلال اعتباره انتصارا للمقاومة!‚ وليس من المستبعد ـ على نفس القياس ـ أن يجري الترحيب عربيا بخطة أولمرت الأحادية الجانب في الضفة!‚ ما يجب الوقوف عنده هو أنه كان من المفترض أن تقرر قمة الخرطوم دعما ماليا كبيرا للفلسطينيين ممثلين في حكومتهم الجديدة بقيادة حماس خاصة في ظل الحصار الغربي والإسرائيلي لهذه الحكومة وللشعب الفلسطيني عقابا له على اختياره لها‚ ولكن القادة في قمة الخرطوم لم يقرروا دعما ماليا إضافيا (زيادة على الـ50 مليون دولار سنويا)‚ وكانت الولايات المتحدة قد شنت حملة ضد حماس من بين عناصرها منع أي دعم مالي للحكومة الفلسطينية الجديدة سواء من أوروبا أو المنطقة العربية حتى لا يؤدي ذلك إلى نجاحها‚‚

وأما بصدد العراق فقد نص البيان الختامي على ضرورة الإسراع بتشكيل حكومة وحدة وطنية تسهم في تحقيق الأمن والاستقرار وتحفظ وحدة العراق شعبا وأرضا‚ وتمهد الطريق لخروج القوات الأجنبية من أراضيه‚ ويؤكد القرار الدور العربي في أي مشاورات حول مستقبل العراق ودعم الدور الذي تقوم به الجامعة العربية لتحقيق الوفاق الوطني العراقي‚ وان تكون أي مشاورات حول العراق هي لخدمة شعبه ومصالحه الوطنية‚‚ إلى هنا ليس هناك أي جديد سوى الرغبة في تفعيل دور الجامعة العربية استكمالا لما قامت به منذ بضعة أشهر عندما استضافت مؤتمر الوفاق للقوى الوطنية العراقية بالقاهرة‚ ولكن تردد في الشأن العراقي داخل القمة أن هناك مقاصة سياسية يجري طبخها ولم تنضج بعد تجمع بين الوضعين العراقي والفلسطيني‚ ولذلك لم تشأ القمة أن تتخذ موقفا في أي منها انتظارا أيضا لمعرفة رد الفعل الأميركي نفسه‚ وتقضي هذه المقاصة بأن يقبل العرب بدور أكبر (مع كل ما يحمله من تضحيات) في العراق مقابل أن تتحرك واشنطن على صعيد عملية السلام في الشرق الأوسط في ظل وجود حماس في السلطة‚ ووفقا لنتائج المفاوضات حول هذه المقاصة يمكن أن يحدد العرب خطواتهم فيما يتعلق بالمشاركة في إنجاح العملية السياسية بالعراق‚ وبجانب ذلك فقد فوجىء العرب بأمر الحوار الأميركي - الإيراني حول العراق مما فرض عليهم ضرورة التمهل لاستكشاف الموقف ومن ثم لتحديد خطوات مشاركتهم في هذه العملية‚مجمل القول ان القمم العربية الدورية لم تعد في وضع يسمح لها بالتصدي لملفات ساخنة يُراد لها أن تظل مفتوحة ‚‚‚ ومن ثم فإن المستقبل هو للقمم التشاورية ولما تفرزه الاتصالات الثنائية بين الأطراف العربية من جهود وخطوات‚