لا نضيف شيئا إذا قلنا ان محمد الماغوط <<شاعر>> كبير. بل اذا قلنا انه الشاعر. إذا كان الشعر سحرا واعجوبة فالماغوط هو الشاعر، وإذا كان سليقة فوارة فهو الشاعر، وإذا كان حقيقة في الحقيقة او جرحا او غناء او ارتحالا او حياة موازية، فهو الشاعر.

محمد الماغوط يرحل اليوم كما يرحل جد عظيم من اجداد القصيدة العربية. فالرجل الذي لم يطو اوائل سبعيناته ربى اجيالا من الشعراء، ونحن اليوم لا نرى شاعرا لم يأكل من خبزه او من خبز صُنع في معجنه. شاعت قصيدة الماغوط في شعرنا كالسر، ودخلت في مسامه وشغافه بدون ثقل وتشرّبها خفية عنه. حتى لقد لاح في يوم انها الشعر بالمطلق؛ الشعر الذي لا يُنمى لأحد ولا يحتاج الى صاحب. هذا شعر لم يعتّق فوجد كل فيه جديده، ولم يستعص فحسبه كلٌّ من فيضِ نفسه، وتلبّسه كثيرون وهم يحسبون انه ثوبهم الخاص، وقالوه حتى حاكى اصواتهم. هكذا سار كالشائعة، وتوزع في الخلق كالحَب في الأرض، وأثمر في حقله وغير حقله. لا نعرف شعرا رسب في شعرنا بمقدار ما فعل شعر الماغوط. بل لا نعرف شعرا اتسع عن صاحبه حتى حجبه كما فعل شعر الماغوط. انه دَين كبير وعلينا الآن ان نرده. لن نعيد الى الماغوط كل حرف اخذناه منه، ولا كل صورة، فهذا قد يلخبط تاريخ قصيدتنا الحديثة كلها. احرى بنا فقط ان نعرف انه غدا بدون علمنا احد كلاسيكيي القصيدة الحديثة. بل غدا، بدون علمنا، محل إجماع نادر في هذه القصيدة.

كثيرون يظنون، خطأ أو صوابا، ان قصيدة النثر الحديثة بدأت بمحمد الماغوط. لا لأنه طبعها باسمه فحسب، بل لأن قصيدته بدت مكتملة كأنها لم تمر بالبدايات. لقد خرجت ناضجة كأنها لا تحتاج الى تاريخ. دخلت المعترك بالقوة التي لم يستطع احد معها ان يشكك في اصلها وفصلها، او ان ينتبه الى انها بوزن او بلا وزن. لم يظهر نقصها بقدر ما ظهر كمالها. هكذا بدت مثالا اكثر منها تفاحة منشقة. طرحت على الشعراء تحديا حقيقيا لم ينتبهوا معه الى ان لها جِلْدا آخر. لقد كانت الغناء الذي يطلبونه ولا يجدونه، والصناعةَ التي يبحثون عنها، والصورة التي تتولد كالشرارة من المفارقة والتضاد. لم يسعهم ان يعيّروها بالنثر، ولو بقي الأمر لشعر الماغوط لكانت قصيدة النثر دخلت في شعرنا دخولا سلسا ولما كانت جابهت على الباب حراسَ الوزن وحراس اللغة وحراس التقليد، ولما دخلت متقصّدة ان تكون لعنة ومرضا وانشقاقا.

منذ <<حزن في ضوء القمر>>، بدا ان الشاب المولود في السلمية 1934 قد استطاع بمعجزة ما ان يكتسب لغات واصواتا لا يدري

احد كيف جمعها. كانت موجة الحداثة واللحاق بموكب عالمي مزعوم وبكوكب عائم للشعر. كانت الحداثة، وكان الحج الى الغرب، ولم يفهم احد كيف وصل هذا النبأ وتلك الأخيلة وهذه الفطرة المدهشة الى اطراف البادية، وأين عثر عليها هذا الشاب الذي احرقت أجفانَه جمرةُ الصحراء. أهو التاريخ العريق تحرك في باطن الأرض وكلّمه. أهو وحي من الغيب، أم هو ملاك الشعر وقف على فمه وساعده. لم يدر أحد كيف وصلت هذه المخيلة المهلكة، وهذا البستان العجائبي، وتلك الرؤى البروميثيسية، وذلك السِّفْر الخيالي، الى هذا الشاب الذي ظل طوال حياته شكاكا بالكتب والنظريات. لنقل ان هذه معجزة الشعر. لنقل ان ما كتبه الماغوط كان برهانا ميدانيا على جدارة مبدأ مجلوب احتاج الى وقت ليجد لنفسه موضعا وفضاء. من اين استطاع محمد الماغوط ان يصل الى دم اللغة، والى دم الشعر الحي، وان يقشّر الكلام ويصل الى عصارته ولبه النابضين. لقد فعل ذلك، ليس بالوحي وحده، بل بمعاناة عظيمة أحرقت كل التراب الذي في صدره وفي عينيه، وجعلته يصل الى الوهج الصافي. معاناة ليست لشخص فحسب، ولكن لحقبة. لقد كان هذا الشعر بحق في لحظة الانتقال الى المدينة. كان افتتانا بالرصيف والشارع والحانة والمقهى، والمبغى ايضا، بقدر ما كان رجما للحظة غادرة تجف فيها الانهار وتقوم الدول على جبل من الأكاذيب

استطاع الماغوط، بأربعة كتب فحسب، أن يصور أسطورة الانتقال هذه. لم تكن خروجا ولا شتاتا ولا ملحمة من أي نوع. لم تكن أسطورة إلا بالمعنى البعيد للكلمة. لقد كانت تسكعا وصعلكة وزمنا يتبدد في الشوارع. كانت حياة تتبدد في الشوارع وتتساقط كالحطب اليابس. لم يحب الماغوط التاريخ ولا الملاحم ولا الأساطير. قال ان رأسه مثقوب من هذه الجهة. ما رآه دائما كان حاضرا متأزما، لكنه حاضر فحسب. كان شعره، بسبب ذلك، مذكرات مدينة ويومياتها. كانت عيناه ملتهبتين بإعادة تخيل العادِيَات. إذا قالت المدينة للماغوط اشرب دموعك فلأنه يعاقب نفسه على افتتانه بها. كان الشارع دائما مرآته. لقد كره الدولة كما يفعل فوضوي حارب بيأس في كومونة باريس، أو جمهورية روسية. هو الذي لا يعرف ذلك، كان أكثر الناس شبها بعصره. حين رفض أن يراه من وراء أحاج وحذلقات وأقنعة، كان على الأقل يبشّر بالحياة قبل أن يبكي لخسارتها، وقبل أن يُدينها.

محمد الماغوط، بأربعة كتب فحسب، كتب كثيرا. ليس مهما أن نقول إنها في النهاية أربعة كتب: <<حزن في ضوء القمر>>، <<غرفة بملايين الجدران>>، <<الفرح ليس مهنتي>>، <<العصفور الأحدب>>. هذه الكتب كانت كلمته الحية، أما الباقي فهو الموت الذي يحيطها. يمكن للعشاق أن يجدوا مجددا مواساتهم في شعره. يمكن للثوريين أيضا، وللمتسكعين وللمحتجين من كل لون. يمكن للشعراء أن يجدوا عيدهم المكسوف. يمكن للتلاميذ، وحتى للأبرياء وللأطفال، أن يجدوا شيئا لهم. لنقل ان هذا الشعر قدم أيضا نموذج حياة. من يقرأ محمد الماغوط فسيعرف السحر العظيم للتسكع؛ السحر العجيب للشارع. من يقرأ الماغوط يفهمْ أن الشعر أيضا نموذج. انه أيضا حرب المهزومين والبراءة المكسورة والقتال الفردي ضد الماكينات الجبارة. بل من يقرأ هذا الشعر يعرف أيضا نبل الشقاء وكرامته، والكره النظيف والطاهر للجبابرة والكاذبين. وإذا عنَّ لأحد أن يعود إلى دواوين الماغوط الأربعة، فسيجد المرثية المسبقة والأصفى لعصر من الأكاذيب.

الماغوط الذي وجد الشعرَ بمعجزة ووجده الشعرُ بمعجزة. الذي تكلم كل اللغات بوحي لا يُدحض. الذي رسم عصرا قبل أن يتكون ورثاه مسبقا قبل أن يبلغ نهايته. الذي اتحد اسمه وأثره بالشعر والذي هو الجد الأول، ولكن أيضا الزميل والأخ. الماغوط الذي فاض شعره عنه يرحل الآن، وسنشعر فورا بأن هواء هائلا مرق بأجنحة جحيمية، وأبواباً هائلة أطبقت، وفراغا كبيرا حل. ذلك أن شاعرا حقيقيا يصفق وراءه أبوابَ الجحيم. عندئذ ستخرج من الكتب الأربعة رؤى ومخلوقات وأحداث وتفاصيل لا يراها إلا مجنون مدن كالماغوط. وسنعلم ان أسطورة حية زالت قبل أن نَخبرها، وعالما رائعا، لم نستحقه، طار عنا.