انتشرت في عقدي السبعينيات والثمانينيات ظاهرة القتلة المأجورين. غير أنّ هؤلاء القتلة كانوا من نوع مختلف: قتلة من النوع الاقتصادي. إنّهم عبارة عن خرّيجي كليّات الاقتصاد الذين يُجنَّدون من قبل أجهزة الاستخبارات في بعض الدول الصناعية الكبرى، ويُرسلون للعمل في دول العالم الثالث باسم شركات خاصة. الهدف: تقديم دراسات <علمية> إلى حكّام تلك الدول يوضحون لهم فيها الطريق القويم نحو ما بات يعرف منذ بداية الخمسينيات ب<التنمية>.

حملت تلك الدراسات سمة أساسية: ضرورة اتّخاذ دول العالم الثالث قراراً بالإنفاق الضخم على مشاريع كبرى. تحرّك هذه المشاريع العجلة الاقتصادية، فيرتفع النموّ. كان القتلة يواجَهون دائماً بسؤالين اثنين: ما الحاجة إلى مشاريع بهذه الضخامة؟ ومن أين تأتي تلك الدول بالموارد لتمويل هذه المشاريع، خصوصاً أنّها قد خرجت حديثاً من تحت سيطرة الاستعمار؟ قدّم القتلة أنفسهم الأجوبة: لا داعي للقلق. بإمكانكم الاستدانة من الدول الغنية. وما لستم بحاجة إليه اليوم، ستحتاجونه غداً حين ينمو اقتصادكم. أمّا كيفية تسديد الدين ودفع الفوائد، فهي أيضاً مسألة محلولة: النموّ الذي ستولّده المشاريع الكبرى هو الذي سيوفّر تلك الأموال.

باختصار، تمّ رسم صورة ورديّة للمستقبل: سيحقّق العالم الثالث وعود التنمية. وكاستفادة جانبية، سيخرج العالم الأوّل من حال الكساد الاقتصادي عبر تسلّمه تنفيذ المشاريع في الدول النامية. لكنّ الواقع، للأسف، جاء مخالفاً لهذه الأحلام. فبادئ ذي بدء، جرت تصفية عدد من حكام دول العالم الثالث المنتخبين ديموقراطياً لمجرّد رفضهم الانصياع ل<نصائح> القتلة المأجورين ودراساتهم العلمية، إمّا عبر الاغتيال المباشر، وإمّا عبر تنظيم الانقلابات. تشكّل أميركا اللاتينية حالة نموذجية لذلك، من بنما إلى غواتيمالا إلى الإكوادور إلى تشيلي... ولا داعي للتذكير أنّه حيث فُرض الانصياع، تعثّرت التنمية. النتيجة: وصلنا مع نهاية الثمانينيات إلى واحد من الأوضاع الأكثر غرابة: أصبحت الدول الأكثر فقراً مموّلة للدول الأكثر غنى، عبر ضخّها الفوائد على الديون المتراكمة. يكفي أن نعرف أنّ البلدان الستّين الأكثر فقراً في العالم كانت مدينة ب25 مليار دولار العام ,1970 وأصبحت مدينة ب523 مليارا في العام ,2002 وأنّ 550 مليار دولار قد دفعتها هذه الدول الستّون، خلال العقود الثلاثة الماضية، كفوائد للدول الغنية وكتسديد لأجزاء من أصل الدين.

في لبنان، لم يحتج الأمر إلى قتلة مأجورين. قامت حكومات ما بعد الحرب، من تلقاء نفسها، بإدخال البلد في نفق الدين العام. لم يكن الإنفاق على المشاريع الكبرى دائماً (وربّما أساساً) هو سبب تراكم الدين. وقد بدأ الدين داخلياً، أي إنّ الدولة قد استدانت من المصارف المحلية وكبار المودعين فيها، وليس من الدول الصناعية الكبرى. غير أنّ الحصيلة ليست مختلفة تماماً، أي إنّ الدين في لبنان قد أدّى الدور المطلوب منه، وهو إعادة توزيع الثروة من الأكثر فقراً إلى الأكثر غنى. حدث ذلك أساساً بين الغني والفقير داخل البلد نفسه، وليس بين الدولة اللبنانية الفقيرة والدول الغنية. غير أنّه حدث فعلاً. إنّ هذه السمة للدين العام، وهذه الوظيفة للدين العام، هي ما يتمّ تغييبه عن النقاش الدائر حالياً. وبهذا التغييب، يمكن أن يتمّ تدفيع الفقراء الفاتورة نفسها مرّتين.

المرّة الأولى حين <شُرِقَت> مداخيلهم لتُدفع كفوائد على سندات الخزينة، والمرّة الثانية حين يطالبون اليوم بتضحيات جديدة، لا من أجل الخروج من مأزق المديونية بل من أجل التمكّن من إعادة إنتاج النظام نفسه، أي من أجل تحسين الوضع المالي للدولة اللبنانية بحيث تصبح قادرة مرة أخرى على الاستدانة بسهولة. يُعتبَر توزيع الثروة من الأكثر فقراً إلى الأكثر غنى داخل حدود دولة واحدة، كما بين الدول، السمة الأساسية للسياسات النيوليبرالية. طبّق لبنان الوصفة، وإن بتصرّف، وجاءت النتائج كارثية. وحتّى الآن، لا تزال كلمة <توزيع> غائبة عن ورقة الإصلاح الاقتصادي. هناك ترداد ببّغائي لأسطوانة النموّ، ومحاولات مستمرّة لاستغباء المواطنين عبر اختزال الاقتصاد بمعادلة الإنفاق والمدخول: يجب أن نخفّف الإنفاق ونزيد المداخيل، كي يختفي عجز الموازنة... إنّنا فعلاً بحاجة إلى هذه النظرية العبقريّة لحجب أعيننا عمّا يجري!