إيلاف

بريء من دم الحريري وهذه قصتي مع جنبلاط، يشهد الله انني بريء، وانا مؤمن بالعدالة وبقضاء الله وقدره. هذه هي العبارة التي يكررها قائد جهاز الامن والاستطلاع السوري السابق في لبنان العميد رستم غزالة، هو الذي بات اليوم في فوهة المدفع بعدما تم تسليط كل الاضواء عليه كجزء من المنظومة الامنية اللبنانية السورية التي سيقت ضدها الاتهامات في شأن اغتيال رئيس الوزراء اللبناني رفيق الحريري . "الرأي العام" الكويتية التقت غزالة في مكتبه في دمشق وأجرت معه هذا الحديث الذي تنشره في عددها غدا وتنشره "إيلاف" بالترتيب معها. على مكتب العميد رستم غزالة، عشرات الملفات، وخلفه صورة للرئيس السوري الراحل حافظ الاسد بالكوفية العربية، وفوقها صورة الرئيس الحالي بشار الأسد ضاحكاً بثياب عسكرية والنياشين على صدره. يرحب العميد بابتسامته العريضة وبذته الكحلية الانيقة، ويبادرنا بالسؤال عن العائلة وأصولها. لا يزال الرجل رغم وجوده في قلب الدوامة، يتقن تماماً فن مداخل الحوار. الحرَس موجود حول المبنى الذي يتخذ منه رستم غزالة مكتباً، ولكن الحرس لا يبدو قلقاً او في حالة استنفار. مجرد سؤال، ثم يصعد الزائر الى الطابق الثاني.

شاب يقف الى جانب المصعد، ورجلا امن بالثياب المدنية يشربان، المتة، ( وهي كالشاي الاخضر الذي جاء به الدروز من اميركا الجنوبية). يقوم غزالة من خلف مكتبه الواسع، يصافح معانقاً رغم انعدام المعرفة الشخصية السابقة، ثم يسأل عن احد أبناء العائلة من منطقة عاليه، ويبادر بشرح ذكرياته مع تلك المنطقة، والتاريخ الطويل العسكري اولاً ثم السياسي مع وليد جنبلاط. يوضح كم كان الدعم كبيرا وكم كانت العلاقات حميمة. حميمة ؟ اسأله . نعم، يجيب غزالة... لا بل في احدى المرات دخلت الى غرفة نومه وكان لا يزال ساهراً. وكانت تعليمات الرئيس الراحل حافظ الاسد لنا تقول بان ندعمه وان نحافظ على الطائفة الدرزية لعروبتها وقوميتها.

ولكنك انت سبب القطيعة معه حين قلت له باسم سورية ان موعده مع الرئيس بشار الاسد قد الغي بسبب معارضته التمديد للرئيس اميل لحود؟ هنا بالضبط يبدأ غزالة بفتح أكثر من ملف، رغم حرصه وتأكيده أكثر من مرة انه يفضل عدم الكلام وانه لا يريد ان يفسّر كلامه على أنه تأثير من قريب او بعيد على التحقيق الدولي الذي كل ما نأمل منه هو أن يكون عادلا لان براءة سورية ستظهر عاجلاً أم آجلاً.

ويروي غزالة، ان سورية حين ارتأت دعم التمديد للرئيس اميل لحود، اتصل هو نفسه (اي غزالة) بأحد المسؤولين في منزل جنبلاط طالباً ان يلتقيه عند الساعة السابعة مساء، فقال له ان جنبلاط يريد الخروج من المنزل، فتمنى عليه ان يبقى وينتظره لان "الامر مهم" فانتظره. ويضيف غزالة: "حين وصلتُ، وجدتُ جنبلاط يتمشى بشيء من العصبية ذهابا وايابا امام المنزل. حاولتُ تهدئته، فسألته عما يزعجه، فقال انه منزعج لامور تعنيه، ثم حاولت تهدئته مرة ثانية وسألته ماذا تقرأ هذه الأيام؟ فأجابني: لا أقرا شيئا، ثم قلت له ان الرئيس الاسد ينتظر زيارته وذلك لان موعده كان قد حدد قبل موعديْ نبيه بري ورفيق الحريري، فسألني عن السبب، قلت له لا اعرف، فقال :يا اخي تريدون التمديد للحود وكل العالم يعرف ذلك وانا ضد التمديد". يتابع غزالة : حينها شرحت له اسباب حرصنا على التمديد ، بدءا بمشروع الهيمنة على المنطقة وصولا الى الخطر الاميركي الاسرائيلي، فبادرني باتهامنا باننا نعمل مع اميركا وننسق امر التمديد معها، فقلت له : يا ريت ، ورجوته ان يتفهم موقفنا، لا بل عرضت عليه ان يبقى هو ونوابه معارضين شرط ان يقول انه يترك لهم حرية الاختيار فرفض، ثم قلت له ان الشروط التي كان ارسلها لنا عبر وئام وهاب (وزير في حكومة عمر كرامي الاخيرة) نقبلها، وهي تعيين2000 دركي، والحصول على 300 مليون دولار لصندوق المهجرين، ووزير للداخلية ، فكرر رفضه.

ويؤكد غزالة انه كلما كان يقدم لوليد جنبلاط ذريعة، كان الزعيم الدرزي يجدد الرفض، لا بل وصل الى حد القول : "ان الرئيس الراحل حافظ الاسد هو الذي نسق مع الاميركيين وجاء بالرئيس بيل كلينتون الى جنيف، وحينها قلت له هذا افضل من الذهاب الى اميركا، فجنيف منطقة محايدة وكما جاء كلينتون من نيويورك فان الاسد ذهب من دمشق... ولكن الحوار كله لم ينفع، وقام جنبلاط من على كرسيه حول الطاولة البلاستيكية البيضاء التي وضعها تحت درج المنزل قائلا : انا عندي موعد ويجب ان امشي. ويقول غزالة : وحينها تأكدت انه لو ذهب الى سورية فان مشكلة قد تحدث ورغم ذلك كنت احاول ان ارتب امر الزيارة، غير ان موقف جنبلاط عقد الأمر فكان ان ارتأى المسؤولون في سورية ارجاء الزيارة منعا لحصول صدام، وفي اليوم التالي كلفت احد الضباط بالاتصال بالوزير غازي العريضي الذي شرح له الامر، فاتصل بي الاخ غازي وقلت له ان التأجيل افضل من الصدام فوافقني الرأي ، وهذا كل ما حصل.

يبدو العميد رستم غزالة، راغبا في شرح كل ما حصل، وكأنه يقدم شهادة للتاريخ، أو كأنه شاعر بان الثقل الكبير في كل ما حصل ملقى على عاتقه، فهل يخشى ان يصبح كبش فداء لو كان القرار الدولي جازما في توريط سورية ؟ هذه الاسئلة التي تراود كل من يلتقي الرجل القوي سابقا في لبنان، او الرجل الذي قيل عنه يوما انه حكم لبنان واللبنانيين وكان مفوضا سوريا ساميا، تبدو مبررة لكثرة ما الصق برستم غزالة من تهم ومسؤوليات، قد يكون بالفعل متورطا ببعضها او ربما كان بريئا، فهذا ما سيحدده القاضي سيرج براميرتس ولجنة التحقيق الدولية، وما ستقوله المحكمة الدولية.

وهنا قادنا الكلام مع رستم غزالة الذي يرن في مكتبه 3 هواتف على الاقل في الوقت نفسه، الى ما حصل بينه وبين لجنة التحقيق السابقة بقيادة ديتليف ميليس . فرستم غزالة لم يلتق حتى الآن اللجنة الجديدة، وقضيته بالتالي لا تزال متوقفة عند ما حصل مع اللجنة السابقة. يروي غزالة ان محققي اللجنة السابقة سألوه خصوصا عن الاتصالات الهاتفية التي اجراها مع الحريري وبري، والغريب ان تلك الاتصالات مسجلة قبل نحو 8 اشهر من اغتيال الحريري ، فمن الذي سجلها ؟ لا بل ان غزالة يؤكد ان مضمون الاتصالات مسجل أيضا وليس فقط وقت حصولها او الارقام المستخدمة، وفي احد هذه الاتصالات المسجلة مثلا، حديث بينه وبين الحريري، يسأل غزالة فيه رئيس الوزراء الراحل عما اذا كان لا يزال محافظا على الهدنة مع الرئيس اميل لحود، فيجيبه الحريري بالايجاب فيقول له انه سيبادر اذا للاتصال بلحود لاقرار هذه الهدنة خصوصا بعدما كان قد طفح الكيل.

وفي اتصال آخر مسجل بين غزالة وبري، يسأله رئيس مجلس النواب عما اذا كان ينبغي الطلب من الحريري الاستقالة، فيجيب غزالة : دع الشارع يقرر ذلك. وهنا يتوقف المسؤول السوري عند أمرين، اولهما ان المحققين السابقين لم يكونوا قد عثروا على أي دليل بشأن تورط سورية، وان مكالماته لا تتضمن اي اشارة مسيئة للرئيس الحريري، مضيفا ان لجنة التحقيق الدولية السابقة كانت تأتي الى دمشق مع اجابات جاهزة لما تريده بمعنى انها لم تأت لتعرف وانما لتؤكد اتهامات.

ويشرح انه حين قيل له مثلا من قبل اللجنة انه استخدم في احدى المرات كلمة غير لائقة، نفى ذلك وطلب التسجيل، فقيل له ان التسجيل غير موجود، فاجاب انه لا يعترف بأي شيء غير مسجل وان في الامر اختلاق وافتراء. يتوقف رستم غزالة بين حين وآخر عن الكلام ، ثم يقول: يشهد الله اني بريء، وكل ما نطلبه هو ان تكون المحكمة عادلة وان يكون القضاء الدولي نزيها وان تكون اللجنة مستقلة، ونحن واثقون ان سورية لا علاقة لها بالأمر، واما اذا ارادت السياسة الدولية غير ذلك فهذا أمر آخر.

يحار المرء كيف يفكر حين يسمع غزالة يؤكد البراءة بهذا الحجم من القناعة والثقة، فكل شيء في لبنان كان يصب في خانة اتهامه، وكل ما يقوله يصب في خانة التبرئة. ولكن الذين اتهموك كانوا اصدقاءك ؟ اقول لرستم غزالة الذي يستقبل بين حين وآخر ورقة صغيرة مكتوب عليها شيء ما، يأتيه بها مرافقه، او يطلب مرات عديدة القهوة والشاي لاطالة الجلسة ولشرح مستفيض. يؤكد انه سيأتي يوم يصبح فيه قول الحقائق كاملة ممكنا، لكن التحفظ هو سيد الموقف الآن، والرغبة في عدم اعاقة عمل اللجنة الدولية قائمة، ثم ان جزءا من المذكرات بات جاهزا .

ولكن لا بد من بعض الامثلة ، ومنها مثلا انه هو الذي ساهم في منح رافي مادويان (ابن زوجة الشهيد جورج حاوي) الجنسية اللبنانية قبل مغادرته (اي غزالة) لبنان ببضعة اشهر، ذلك ان رافي كان يحمل الجنسية الروسية. ويؤكد كيف ان هذا الصديق السابق والذي كان يدعوني عمي ابو عبدو بقي على اتصال بي لفترة غير قصيرة قبل ان يطلب منه البعض الهجوم علينا فاختلق قصة انني قلت له بعد اغتيال والده ان الرئيس اميل لحود هو الذي قتله، وهذا محض افتراء. ويقول: ما زلت احتفظ بكل الوثائق التي كان رافي يبعث بها لي وفيها تقارير مثلا عن اجتماعاته بنسيب لحود وغيره، ولكنني اخترت من تلك التقارير الاقل قسوة عليه والتي تم نشرها في صحيفة الديار.

ويؤكد ان رافي ارسل له بعد نشر الوثيقة من يتمنى عليه وقف الحملة ضده. ولكنكم متهمون بقتل والده ؟ يجيب رستم غزالة : الله يسامحهم، وغدا حين يتبين اني بريء من كل تلك التهم وان سورية بريئة سيفهمون، فانا الذي طلبت من الحريري ان يعين جورج حاوي وزيرا للداخلية في احدى المرات. وهنا الشرح مستفيض عن العلاقة الحميمة التي كانت تربطه بالرئيس الحريري، ولكن هنا ايضا تقدير لموقف السيدة بهية الحريري هذه السيدة المحترمة والتي برهنت عن اخلاق عالية. الكلام كثير في سورية، والملفات بالعشرات عند رستم غزالة، وقد ودّعته وعندي شعور بان الرجل يعيش لحظات حاسمة في حياته، ولعله يعيش اللحظات الاكثر خطورة، فالتحقيق الدولي لا يزال النقطة الاكثر غموضا، وسرية براميرتس وحرفيته تجعلان كل الاحتمالات مفتوحة، ثم ان بعض التقديرات السورية تقول ان الولايات المتحدة الاميركية راغبة في توريط سورية في الحالتين، اي في حالة التمهيد للتفاوض او في حالة الاستمرار بالضغوط. وددت مرات كثيرة ان اسأله ما اذا كان يفكر في الانتحار في ظل كل هذه الضغوط الكبيرة، لكن تكرار قوله في غالبية العبارات انه رجل مؤمن ولا يمكن ان يقدم على ما يغضب الله تعالى منعني من سؤاله، لكنني عندما غادرت مكتبه تملكني شعور بأن الرجل لن يراني مرة اخرى، مجرد شعور. هل يدفع غزالة ثمناً لما قد يؤدي اليه التحقيق؟ لا شك ان من يزوره يشعر بشيء من هذا القلق.