تأثرتُ وكثيرين من أبناء جيلي بما خلفته تجارب مثيرة دخلتها أمم ربطتنا بها أواصر وتاريخ مشترك. تأثرنا بما خلفته التجربة الكمالية في تركيا، وتجربة فيمار في ألمانيا، وتجربتا اليابان وألمانيا لإعادة البناء بعد الحرب العالمية الثانية، وتجارب عدة في فرنسا: الأمة القلقة على اختلاف عصورها. وتأثرنا أيضاً بتجربة الأسبان مع نظام حكم فرانكو ومع الحرب الأهلية في الثلاثينات. وأعترف بأن اهتمامي بأسبانيا خفت لفترة طويلة حتى جاء وقت عادت أسبانيا تفرض نفسها. ووجدت نفسي أتابع معجزة النهوض الأسباني. وأقول معجزة أو ما يشبهها، لأن أسبانيا حققت قفزاتها في وقت قياسي بالمقارنة بالفترة التي احتاجتها فرنسا أو ألمانيا أو حتى إيطاليا.

وقد سنحت الفرصة لأطلع عن قرب على تفاصيل تجربة أسبانيا في الانتقال من الاستبداد إلى الحرية، أو من حكم الرجل الواحد أو الحزب الواحد، إلى حكم مشاركة وتداول وارتقاء ثقافي وتحضر سياسي. وأعتقد أن الوقت مناسب ليتناقش السياسيون والخبراء العرب في أمر هذه التجربة. تقول لنا تجربة الانتقال في أسبانيا إن البلد لم ينفرط، ورأس الدولة لم يختف، بل على العكس زاد احترامه واكتملت شرعيته ونما الاقتصاد، وصححت الانحرافات نفسها بهدوء واعتدال المعارضة واحترمت دورها وتهمشت عناصر العنف وقوى التطرف وعادت أسبانيا تقود في أميركا اللاتينية ويعترف العالم بمكانتها.

كثير من جوانب الصورة عن أسبانيا عشية الانطلاق نحو الإصلاح يشبه جوانب في صورة أكثر من دولة في العالم العربي، حركة واسعة من الريف إلى المدن وطبقة وسطى تتسع وزيادة متواصلة في نسبة عمال الصناعة والخدمات إلى عمال الزراعة وانخفاض في نفوذ طبقة ملاك الأراضي الزراعية وظهور عديد من منظمات مجتمع مدني أو عودة كثير منها إلى العمل. هناك أيضاً رأي عام أكثر تسيساً وميلاً للتغيير وقابلية لثقافة سياسية جديدة ترفض «التغيير الثوري». هذه هي جوانب من صورة المجتمع الأسباني على أعتاب عقد السبعينات من القرن الماضي، أي منذ ثلاثين عاماً لا أكثر.

جوانب أخرى لا يتوفر فيها الشبه مع دول عربية، ومع ذلك فإننا حين نتوقف ونتأمل نجد أن الشبه حيث لم يوجد بدأ يتكون، وبسرعة لا بأس بها. أنظر مثلاً إلى عدد من التطورات التي وقعت في أسبانيا في ذلك الحين، وهي التطورات التي اختارها البعض لتكون شروطاً واجبة لانتقال الدول من حال حكم الرجل أو الحزب الواحد إلى حكم ديموقراطي. وهي شروط تبدو أقرب إلى أن تكون مسهلات ومشجعات على انتقال منتظم ومعتدل وسلس وليست بالضرورة شروطاً واجبة. أول هذه المسهلات والمشجعات وقوع انقسام في صفوف الحزب الحاكم، أو النخبة الحاكمة، يفرز تيارين واضحين ولكن في وضع مواجهة: تيار إصلاحي وتيار متشدد أو محافظ، إذ لا أظن أنه من الممكن توقع انتقال سلمي نحو الإصلاح السياسي من دون أن تكون التيارات الأعظم في النخبة الحاكمة مقتنعة بدرجة كافية بضرورة الإصلاح. ففي غياب هذا الاقتناع وهذا التيار، يصبح البديل للانتقال أقرب إلى الثورة أو الانقلاب منه إلى الاتفاق بالتفاوض والتراضي وإقامة التحالفات.

يأتي ثانياً في قائمة المسهلات أو المشجعات أن تكون السلطة الحاكمة في موضع مواجهة مع صعوبات متزايدة في إدارة دفة الحكم. إذ أنه حين لا تعترف السلطة الحاكمة بالتحولات الاقتصادية والاجتماعية وبتأثيرات المتغيرات الدولية وبالزيادة المفاجئة أو الطبيعية في توقعات الشعوب نتيجة التأثر بما يحدث في الخـارج، يصبح منطقياً أن تتعقد في وجهها سبل حل مشكلات المجتمع، وتضطر إلى استخدام درجة أعلى من القمع والعنف، مما يولد سخطاً أشد ونقصاً في الشرعية وتطرفاً في المشاعر وضغطاً من أجل التغيير.

يأتي ثالثاً اكتشاف «سقوط» الحزب الحاكم أو عجزه عن المشاركة في إدارة شؤون الدولة والمجتمع. هنا يتسبب عناد قادة الحزب وبيروقراطيته العتيدة ورفضهم الاعتراف بأن الحزب متدهور الفعالية في الأداء والتأثير في الشارع، وبأن المجتمع في حالة ركود عام مما يشجع على تفاقم الفساد وزيادة القمع الأمني وتدني معدلات النمو الاقتصادي وتكاثر عشوائيات المدن والطبقات وفقدان الشعور بالمسؤولية داخل أجهزة الحكم. عندئذ قد تدفع هذه الأوضاع لظهور تيار إصلاحي داخل الحزب وحركات سياسية ثورية أو إصلاحية خارجه.

رابع المسهلات أو المشجعات على انطلاق مرحلة انتقالية نحو الإصلاح في نظام سلطوي أن تبزغ في الساحة السياسية وجوه لامعة جديدة تجذب إليها انتباه الرأي العام وتنجح بقدراتها الذاتية أو بإمكانات حركات وجمعيات تحتضنها في طرح نفسها كخيارات أو بدائل، أو تبدو للناس كقيادات ناضجة إلى الحد الذي تكسر به احتكار النخبة الحاكمة للوظائف والمواقع الأساسية في الدولة، وأحياناً في المجتمع الثقافي والأدبي. إن مجرد ظهور شخصيات تسحب لنفسها جانباً من إعجاب الرأي العام واهتمامه يعني أنه جرى الخصم من شعبية قادة النظام الحاكم، ويعني أيضاً أن ثقوب العجز في الحكم وإدارة الدولة تعددت وتفاقمت فلم يعد ممكناً إخفاؤها أو الاستمرار في الادعاء بأنه لا يوجد في المجتمع مواطنون نابهون أو مخلصون أو قادرون. ويعني وهو الأهم بداية انقسام في الولاء بعد أن كان الولاء كاملاً ومطلقاً مخصصاً لشخص الزعيم وأشخاص معاونيه.

تأتي خامساً الخطوة التي لجأ إليها نظام فرانكو في أسبانيا، والغالبية العظمى من الأنظمة السلطوية على امتداد السنوات الماضية، وهي ارتداء أقنعة دستورية عن طريق إجراء استفتاءات وإصدار تشريعات تحمل معنى إدخال تعديلات شكلية في إدارة الحكم. إن مجرد الإقدام على هذا العمل يعني أن النظام الحاكم اعترف أنه على أبواب أزمة، وأنه في حاجة لتأجيل انفجارها أو تحويل الأنظار عنها. في هذه اللحظة تكتشف قوى سياسية واجتماعية أخرى الأمر نفسه وتكثف جهودها لإجبار النظام على الاقتناع بضرورة الإصلاح وتبدأ في تشكيل تحالفات لمواجهة الحزب الحاكم ونخبته.

هذه وغيرها، عناصر سهلت انتقال الحكم في أسبانيا من نظام الرجل أو الحزب الواحد إلى نظام ديموقراطي ثم القفز نحو درجة عظمى من النمو الاقتصادي والتوافق الاجتماعي، ومعظمها متوفر في بلادنا وإن بدرجات متفاوتة. بمعنى آخر، لدينا إن شئنا عناصر كافية للانطلاق نحو إصلاح جاء وقته. ومع ذلك، فهنـاك عناصر أخرى توفرت لإسبانيا في شكل ضغوط خارجية لم تتوفر لدولنا العربية، وقد لا تتوفر قريباً باستثناء الضغط المتقطع - وأحياناً الانتهازي - من جانب الولايات المتحدة ودول غربية أخرى. توفر لأسبانيا ولم يتوفر لنا الوجود داخل بيئة إقليمية «ديموقراطية». ففي ذلك الوقت، وقت نهوض أسبانيا، كانت كل دول أوروبا الغربية ديموقراطية الحكم باستثناء اليونان والبرتغال، ثم انتقلت اليونان والبرتغال من حكم العسكر من جهة وحكم الفرد الواحد من جهة أخرى نحو الديموقراطية وبقيت أسبانيا جزيرة في بحر من الديموقراطية. الأمر عندنا مختلف، فالغالبية الإقليمية غير ديموقراطية، بل وتعمل ضد الديموقراطية.

من ناحية أخرى، بدأت أسبانيا منذ عام 1962 تحلم بالانضمام إلى الجماعة الأوروبية، وتأكدت أنها لن تحقق هذا الحلم طالما احتفظت بنظام سلطوي وغير منفتح. كان الشعب يضغط وكذلك منظمات رجال الأعمال والنقابات ومارست الجماعة الأوروبية ضغطاً قوياً على حكومة مدريد. وأنفقت ألمانيا، بخاصة، أموالاً طائلة لدعم منظمات المجتمع المدني والمؤسسات الصحفية «الديموقراطية» في أسبانيا. وفي الوقت نفسه كان «مجلس أوروبا» يرصد الموقف في أسبانيا ويصدر تقارير دورية عن أعمال القمع ومخالفات القانون وحقوق الإنسان، رغم أن أسبانيا لم تكن عضواً فيه. عندنا يختلف الأمر أيضاً، فلا توجد المنظمة الإقليمية التي تضع شروطاً ديموقراطية لعضويتها أو ترصد مخالفات الدول الأعضاء وغير الأعضاء وخروقاتها لحقوق الإنسان وأسس الديموقراطية. بمعنى آخر لا ضغط إقليمياً كما أنه لا ضغط دولياً قوياً رغم الزعم السائد بوجود هذا الضغط وبشدته، لأنه بالمقارنة بالضغوط التي تعرضت لها حكومة فرانكو في أسبانيا تبدو الضغوط الأجنبية الراهنة على الدول العربية كما لو كانت من قبيل المداعبة أو المشاكسة. يذكر أن الولايات المتحدة لم تضغط على فرانكو بسبب اعتمادها الفائق في ذلك الحين على قواعدها العسكرية في أسبانيا.

من ناحية ثالثة.. كان الرأي السائد في دول الغرب أن الكاثوليكية وقفت عائقاً أمام الديمقراطية حتى أصدر المجلس الفاتيكاني المنعقد في 1963 - 1965 إعلاناً بدعم الانتقال إلى الديموقراطية وأن الكاثوليكية ليست ضد الديموقراطية. الأمـر عندنـا مختلف بالتأكيد، فلا يوجد لدينا فاتيكان، ويقال إنه لا يوجد في الدين كهنوت. ولكن عندنا بالتأكيد من يحاول استخدام الدين ضد حملة الانتقال إلى الديموقراطية.

تبقى ملاحظة، أعتقد أنها شديدة الأهمية. ففي أسبانيا، لم أقابل شخصاً ينكر فضل الملك، باعتباره أعلى سلطة في الدولة على الانتقال بأسبانيا من حال إلى حال، فقد قام رأس الدولة بنفسه بمهمة تفكيك النظام السلطوي، وبذلك منح الانتقال للديموقراطية شرعية مضافة، فضلاً عن أنه جدد شرعية النظام الملكي حين نجح في إقناع الأحزاب الديموقراطية بعدم تعارض النظام الملكي مع النظام الديموقراطي، كذلك فقد استخدم مؤسسات النظام السلطوي ومنها المؤسسة العسكرية ليحقق انتقالاً هادئاً وسلساً.

ليس صحيحاً أن كل تجارب الانتقال صعبة أو تؤدي إلى الفوضى، وليس شرطاً أن تكون عنيفة أو ثورية.